يا عابرَ السبيل . . . (قصّة)

في الصباح الباكر سمعتْ ربةُ البيت ابنتَها تناديها بصوت فيه الكثير من اللهفة واللجاجة، فخفق قلبها هلعاً من مفاجأة مكدرة، وهرولت إلى غرفة ابنتها، فألفتها جالسة في سريرها وفي يدها قلم ودفتر للرسم. فقد كانت تعرف شغفها بالرسم من بعد أن أقعدها الشلل عن الحركة منذ سبع سنوات، وها هي اليوم في السابعة عشرة ورجلاها لا تقويان على المشي؛ أما ما بقي من جسمها ففي حالة سويّة !

سُرِّيَ عن الوالدة عندما أيقنت أن طارئاً غيرَ مستحب لم يطرأ على ابنتها؛ ولكنها عجبت لها تستفيق من نومها في مثل تلك الساعة المبكرة وتكبّ على الرسم قبل أن تغسل وجهها، وقبل أن تتناول شيئاً من الطعام جرياً على عادتها في صباح كل يوم.

  • ماما! ماما! هذه أجمل صورة رسمتها حتى الآن..اقتربي وتأملي هذا الوجه.
    وأشرقت أسارير الصبية بنور لطيف ناعم وهي ترفع الدفتر الذي في يدها لتمكّن والدتها من النظر جيداً إلى الصورة التي فيه.
  • أتصدّقين يا ماما أنني أنهيتها في أقل من ربع ساعة؟ أمر عجيب! كنت أرسمها وأشعر أن القلم في يدي تحركه يدٌ غيرُ يدي. تأمّليها ملياً. أرأيتِ في حياتك أجملَ وأنبل من هذا الوجه؟
    صُعقت الوالدة عندما وقع بصرها على الصورة، وجحظت عيناها، فما انفرجت شفتاها إلا عن دهشة بالغة.
  • ما بالك يا ماما لا تقولين شيئاً؟ ألعلك لا ترين الصورة مثل ما أرى؟
  • دعيني أسترجع أنفاسي يا بنتي….لقد غلبتني الدهشة.
  • لماذا يا ماما؟
  • إنها صورته.
  • صورة من يا ماما؟ ألعلك تعرفينه؟
  • صورة عابر السبيل الذي جاءنا أمس يطلب مأوى فما آويناه.
  • أتعنين أنه هو بعينه، كان هنا…في بيتنا؟!
  • لم يسمح له والدك بالدخول. فلم يجتزِ العتبة.
  • لم يسمح له؟ آه من بابا؛ ما أقسى قلبه؛ وأنتِ… ماذا كان موقفك؟
  • موقف والدك؛ فما كان علينا أن نفعل غير ذلك.
  • ولماذا؟
  • لأننا، يا بنتي، نعيش وحدنا هنا في وسط هذه الغابة الشاسعة. فمن الحكمة أن نتحفّظ كثيراً، فلا نقبل في بيتنا غريباً لا نعرف عنه شيئاً. ومن ثم فقد رأينا في ثيابه الرثة وفي وجهه الشاحب ما يدعوا إلى الحذر.
  • متى جاءكما هذا الغريب؟ ولِمَ لم تخبراني عنه؟
  • جاءنا أمس في ساعة متأخرة؛ ولم نخبرك بأمره لأنك كنتِ نائمة.
  • وماذا قال عندما جاء وعندما ذهب؟
  • لست أذكر يا بنتي. وأذكر أنه طلب أن ينام عندنا ليلته – ولو في الإسطبل – فلم نجبه إلى طلبه.
  • وإلى أين ذهب من هنا، وفي الليل، وفي غابة كهذه الغابة؟
  • من يدري؟
  • يا لقَلبيكما، ما أقساهما! أمثل هذا الزائر الكريم لا يجد عندكما مأوى؟

بغتة ألقت الصبية الدفتر من يدها على اللحاف، وأكبّت وجهها على وسادتها، ثم طفقت تنشج نشيج رضيع جائع انتُزِع الثديُ من فمه. فاضطربت الوالدة أيّما اضطراب، وانحنت فوق ابنتها، وأخذت رأسها بيديها، وراحت تكفكف دموعها بشفتيها وتستفسرها عما بها، فلا تلقى جواباً غير دموع جديدة تفيض بغير انقطاع. وعندما أعياها الأمر فطنت إلى الدفتر الذي فيه الصورة، فرفعته عن اللحاف وقالت :

  • يا بنتي أخبريني ما بك؟ ومن أوحى إليكِ هذه الصورة؛ إنني لا أكاد أصدق أنكِ رسمتِها في هذا الصباح، وفي أقل من ربع ساعة، ومن غير أن تقع عينك على الرجل. إنه لسرٌّ عجيب.

فعلت هذه الكلمات فعل السحر في الصبية… فما هي إلا دقائق حتى عادت فاستوت جالسة في سريرها، وردّت شعرها الأسود عن جبينها، ومسحت عينيها الواسعتين بمنديلها، ومرّت بأناملها الدقيقة على وجهها المستطيل وقد امتشجت سمرته اللطيفة بدفقة من الدم القاني؛ ثم تناولت الصورة وأخذت تحدق إليها بحنان وكأنها تتفحص كل خط من خطوطها، وكلَّ ظلٍّ ونورٍ من ظلالها وأنوارها. وطغت على وجهها ابتسامة عذبة عندما رفعت عينيها إلى والدتها وقالت :

  • لعله، من بعد أن أوصدتما الباب في وجهه، وجد شباكي مفتوحاً فآثر أن يقضي ليلته معي. لقد كنتُ كل الليل في رفقته.
  • ماذا تقولين يا بنتي؟! هل أنتِ تهذين، أم أنتِ تمزحين؟
  • لا أهذي ولا أمزح؛ بل إنني – كما قلت لكِ – قد قضيتُ الليل بكامله في رفقته. أو أنه هكذا تراءى لي!
  • يا للفظاعة! لست أصدق. ومن أين دخل؟
  • هدّئي من روعكِ يا ماما. ما كنت أظنك بسيطة إلى هذا الحد. لقد زارني الرجل في المنام.
  • آه! في المنام؟
  • نعم في المنام؛ وليت منامي لم ينتهِ.
  • ومن ذلك المنام هذه الصورة؟
  • نعم من ذلك المنام.
  • لو كنت أجهلك لما صدقتك. إنها صورته بالتمام. عجيب.. عجيب.. وماذا قال لكِ في المنام؟
  • أشياء كثيرة، لست أذكر منها غير قوله: “ستبرئين من علتكِ يوم يبرأ والداك من علتهما”.
    قالها عند الوداع. وعلى الأثر أفقت من نومي وأنا أردد قوله؛ ثم أخذتُ قلمي وطفقت أرسم صورته العالقة بين أجفاني، فكانت النتيجة ما ترين.
  • شيء مدهش! شيء غريب! شيء لا أفهم منه شيئاً! وماذا يعني بِعِلَّةِ والديك وعّلتِكِ، ونحن من كرم الله نتمتع بصحة ممتازة…؟
  • لست أدري؛ ويا ليتني كنت أدري… إذاً لعادت إليكِ العافية في الحال. فعلّتي وعلة والدك الوحيدة يا بنتي هي علتك. وأنتِ تعرفين أننا لا نبخل بالحياة في سبيلك، ولو كنا نعلم أن في استطاعتنا أن نفدي صحتك بحياتنا.
  • ألا تذكرين القول القديم يا ماما: “الآباء يأكلون الحصرم، و الأبناء يضرسون”؟ لعلّه يعني ذلك.
    قالت الابنة ذلك وعضّت شفتها السفلى بشدة كأنها ندمت على ما قالت. ثم أغمضت عينيها، وأخذت رأسها بكلتا يديها، وانقطعت عن الكلام. عبثاً حاولت أمها فيما بعد أن تستدرجها ولو بقول “نعم” أو “لا”.

تقلّص النهار والابنة معتصمة بالصمت، وفي يدها الصورة تحدق إليها طويلاً، فلا يرف لها جفن. فآناً تبعدها وآونة تدنيها. أو تأخذ القلم وتهمّ بتغيير خط أو تخفيف ظل فيها فتجمد يدها؛ وفي دماغها تدور كلمات الرجل التي تلفّظ بها في المنام، ولا تنفك تجهد نفسها حتى يدور رأسها من الإجهاد، ويغيم بصرها، ويتملكها الشعور بأنها تفتش عن ذرة من التبر في طود من التراب. ونسيت أنها من لحم ودم، فلا يقلقها جوع أو عطش، ولا هي تحس أقل حاجة إلى النوم. لقد استحوذت الصورة على جميع مشاعرها، وخُيِّل إليها أن بين شفتي تلك الصورة الكلمةَ السحرية التي تستطيع شفاءها من علتها، لو كان لها أن تحملها على النطق. ولكن أنّى لها ذلك والصورة صورة لا أكثر؟ أمَا من سبيل إلى العثور على ذلك الغريب؟ ليرسل والدها أحد رجاله للتفتيش عنه، فلعله لم يبرح الغابة بعد، وليأتوها به فتعتذر له عن جفاء والديها. وحسبُها أن تبصر في اليقظة وجهه الجميل وتسمع صوته المؤنس؛ ولا همّ لها بعد ذلك، أبَرِئَتْ من علتها أم لم تبرأ !

أفضت الابنة برغبتها إلى والديها فقابلاها بالسخرية، وعلى الأخص والدها الذي ابتسم ابتسامة صفراء، وقال إنه مهما تكن محبته لابنته الوحيدة فلن يضحي في سبيلها بعزته وكرامته، ولن يبلغ به السخف إلى حد أن يرسل أحد رجاله في الليل ليبحثوا عن صعلوك متشرد، ويأتوا به إليه ليعتذر له عما بدر منه في الليلة الفائتة. على أنه لو عرف أن طبيباً في أقاصي الأرض يستطيع أن يشفي ابنته من شللها، لطار إليه في الحال، وَلَمَا بخل عليه بكل ما يملك، حتى بحياته.

مرَّ أسبوعان طويلان والابنة لا تذوق الطعام والشراب إلا لماماً؛ واتسعت الشقة ما بينها وبين والديها، فباتت وكأنها غريبة عنهما وعن كل ما في البيت ما عدا صورة عابر السبيل، فما كانت تفارقها إلا ساعة يتغلب عليها النوم. وآلم الوالدة أشد الألم أن ترى ابنتها تذوب أمام عينيها ذوبان الشمعة المضاءة، وقالت لزوجها :

  • إن ابنتنا تتلاشى يوماً بعد يوم.
    فأجابها مطرقاً :
  • وماذا تريدين مني أن أفعل؟ أأشق ثيابي؟ أأرشق ربي بالحجارة؟
  • لعلها على حق.
  • في ماذا؟
  • في أمر عابر السبيل.
  • أتعنين أنها على حق في طلبها إلي بأن أرسل رجالي للتفتيش عن ذلك الصعلوك؟
  • أما ترى كيف أنها رسمت صورته من غير أن تراه؟ أما ترى عظيم تعلقها بتلك الصورة؟ لعل في ذلك سراً نجهله.
  • بل السر في أن ابنتنا عنيدة، متهوّسة، وأنها تريد أن تذل كبرياءنا لعنادها وهوسها.
  • لا بأس لو كسرنا من كبريائنا؛ ولا بأس لو سخَرنا بأنفسنا أو سخر بنا الناس؛ لا بأس لو استرضينا آخر صعلوك في الأرض إذا كان لنا من ذلك أن نُبقي على حياة ابنتنا. فأنا، وإن كنت لا أتوقع لها الشفاء، لا أطيق الحياة بدونها.

وترقرقت دموع الوالدة على خديها حارّة، غزيرة؛ فبكى الوالد لبكائها. وفجأة وثب عن كرسيه وصاح:

  • لن يذهب للتفتيش عن عابر السبيل غيري.

بعد دقائق كان الوالد يسرج بيده جوادَه الأحب إلى قلبه؛ فاهتزت الوالدة فرحاً وأسرعت إلى ابنتها لتزف إليها البشرى.
ما إن فتحت باب غرفة ابنتها حتى تسمّرت مكانها، وانعقل لسانُها، وأحست كأن قلبها يهبط عن أخمصيها. لقد وجدت ابنتها واقفة أمام المرآة تسرح شعرها، وسمعتها تغني بصوت خافت وهي تقول:

يـــا عــابــرَ الــســبــيــل، عــــُـدْ من هـــــــنـــــــا.. .

اترك تعليقاً