تأمّلوا الغربان (القس فؤاد أنطون)

النص الكتابي: لوقا 12: 22 -31
لقد استطاع الله أن يبلسم جراح المضطربين بكلمة منه؛ فجاءت حبة الحنطة لتكون مصدر الطعام لتشبع الجائع، وقطرة المطر لتروي ظمأ العطشان وتحيي كل شيء حي – أكان من الإنسان أم الحيوان أم الأشجار أم النبات. من رفض هذا العطاء وهذه النعمة، أو أساء استعمالهما، زال واضمحل. وكما يقول المثل: “اللي استحوا ماتوا”. وكم نسمع اليوم عن نباتات كانت قديماً موجودة، لكن اليوم أصبحت مفقودة – من الماضي وفي كتب التاريخ. يعود سبب الانقراض إلى الجوع أو العطش أو المرض؛ هذا في الأمور الطبيعية. كذلك عدد من الحيوانات انقرض مثل الديناصورات وبعض الطيور للأسباب ذاتها. لكن الذي يدعو إلى التفاؤل والاستمرارية هو، ليس فقط صراع البقاء، بل الأمل الذي يمنحه الله لكل كائن حي. مهما اشتدت الظروف نجد يد الله ممدوده وجاهزة للمساعدة وفي الوقت المناسب، كما يقول بولس الرسول: ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا (كور10 : 13). إذاً كيف  يساعد الله الإنسان؟
لنعُدْ إلى البداية ومع عنواننا “تأملوا الغربان”، ليكون درساً لنا ولكل من أراد أن يعتمد على الله .
سأتناول في حديثي مثلاً واحداً عن رعاية الله التي لا حدود لها؛ فهو يهتم بنا قبل الولادة، أي خلال فترة الحمل، وبعد ذلك منذ صِغرنا حتى بلوغ سن الرشد. كم نتعرض للتجارب والحوادث والمآسي؟ وأحيانا نصل إلى حافة الموت. لكن الله يتدخل بلحظة فيغير كل مجرى الأمور. نظن أن الحاجات الأرضية تساعدنا فنهتم بها مبتعدين عن الله، أو بالأحرى تبعدنا عن الله؛ كما يقول الكتاب: جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب. أي اهتموا بالأمور الأرضية وابتعدوا عن الأمور الروحية. فلنتعلم إذاً من الغربان.
إن هذا العنوان ليس بالمستحب أو المستحسن عند الناس، لأن لا أحد يتأمل بالغراب أو يوليه اهتمامه. بل هو منبوذ ومحتقر ومرفوض؛ وأكثر من ذلك، هو دليل شؤم عند بعض الناس. فلا صوته مقبول ولا لونه الأسود يدعو إلى التفاؤل والفرح. ولا يكفيه ذلك حتى أصبح من الطيور النجسة عند اليهود، كما أشار إلى ذلك سفر الثثنية. لكن هذا لا يؤخّرنا عن المضي قدماً للتعرف إلى خصائص هذا الطائر الذي يجول طوال النهار بحثاً عن أكله لمجرد استمرارية الحياة، ولو كلفه هذا عناء التعب، ولربما الوقوع في الشرك والموت. بعض الناس لا يتردّدون في توجيه بندقياتهم نحوه لقتله: ليس شهوة في أكله ولحمه، بل للشعور بالقضاء على مصدر الشؤم.
لا ننسَ أن بعض الدول تعتبره مصدراً للخير والتفاؤل، وتحافظ عليه وتدافع عنه. ما هي مواصفات هذا الطائر؟
– أسود اللون؛ يختلف عن القاق، أو الوقواق المنتشر بكثرة في الشرق الأوسط، خصوصاً في لبنان. ينتشر بشكل جماعات، أو أسراب؛ ويمكن أن يعيش مع الوقواق الذي يشبهه إلى حد ما باللون والشكل.
– يأكل كل شيء، ولا يميز بين النظيف والوسخ، الطاهر والنجس، اللين والقاسي. إذا ما اشتدت به الأحوال أكل العشب والتراب.
– يعيش في كل الأمكنة، أكانت مرتفعة أم منخفضة، مسطحة ناعمة أم صخرية، لأن أرجله الطويلة تساعده كثيراً في الهبوط والجلوس والتنقل براحة على كافة الأشجار الطويلة والقصيرة. يفضل العيش في الغابات والأشجار الكثيفة، وكذلك على سطوح المنازل والطرقات وأسطح القرميد .
– له جناحان طويلان ناعمان يساعدانه على الطيران والحركة فيصبح مرناً في تنقلاته؛ وكذلك يمنحانه الثقة بالنفس للهروب بسرعة وسهولة.
– يبني عشه بمختلف الأعشاب؛ لا يهتم كثيراً بشكل العش أوحجمه، بقدر ما يهتم بالبيض والصغار.
– حاضن بحرارة كبيرة للبيض. فالأنثى لا تفارق العش أبداً. أما الذكر في هذه المرحلة، فيجول بحثاً عن الطعام للأنثى. عند الضرورة يحتضن البيض مكان الأنثى.
– يدافع بشراسة عن نفسه وعشه وصغاره، حتى أنه يضحي بنفسه من أجل حماية صغاره. يبقى طوال كل الوقت مراقباً ومتيقظاً.
– يعلّم فراخه الطيران، ويرافقهم لمدة طويلة، ولا يفارقهم إلا بعد أن يطمئن إلى نضوجهم والاعتماد على الذات، ويعيش معهم بسلام.
– لا يهاجر مثل بقية الطيور بحثاً عن الطعام، أو الطقس المناسب، أو التزاوج، إلا بأسراب قليلة، بعكس الطيور الأخرى. فهو يستوطن في منطقه معينة، وتصبح بمثابة المحمية والبيت الدائم له.
– لا تخالطه الطيور الأخرى بسبب شراسته وقوته وصلابته وعناده وأنانيته في الحصول على الطعام. لذلك يفضل العيش منفرداً مع سربه.
– طائر متردد في طيرانه وتنقله. فهو يدور في السماء ولا يعرف اتجاهه. على الأرض يتنقل من مكان إلى آخر من دون سبب. هذا سبب تردد الغراب الذي أطلقه نوح في تك 8 : 7.
– لا يحب أن يقاسمه أحد طعامه بسبب أنانيته؛ لذلك فهو يحارب كل من يقترب منه ويحافط على ما يملك. لذلك كانت معجزة من الله أنه جعل الغربان تأتي بالخبز واللحم إلى إيليا النبي (ملوك 17: 4).
إن كل الحقائق الآنفة الذكر تعني أنه طائر غير محبوب، وإن حاول البعض تربيته ليصبح أليفاً، لكنه سيبقى (المشاغب)، وأحياناً السارق والمزعج. أما بعض الأسباب التي تدعونا للنفور منه، فهي:
– اللون الأسود مصدر شوؤم لعدد كبير من الناس؛ ونحن نعرف أن اللون الأسود علامة الألم والحزن.
– صوته مزعج (نعيب) ولا يمكن التأقلم معه. فهو يبدأ بالصراخ كلما شاهد حركة غريبة أو شعر بالخوف، وطلباً للأكل.
– الغراب في عصر الجاهلية كان مصدر شوؤم، وكانوا يضربون به المثل فيقال: غراب البين، أي الفراق.
  
بعد كل هذا الشرح، وإن كان طويلاً، تتبيَّن لنا حالة هذا الطائر الذي ضرب به يسوع المثل ليقول لنا تأملوا في حركاته وحياته. فالله هو الذي يقوتها ويساعدها على البقاء.
المسيح تكلم في إنجيل متى 6: 26 عن طيور السماء، ولم يخصّص طائراً معيناً. إلا أن لوقا انفرد بالقول: “تأمّلوا الغربان”؛ هذا الطائر الذي منحه الله الحكمة في استغلال الأمور حتى أصبح يتأقلم مع الواقع ولا يخاف الموت.
إن إرادة الحياة عند المؤمن أقوى من إرادة الموت، مثلما قال داوود: “طوبى لمن كان الله متّكَلَهُ”. فلا مجال للاستسلام لمشيئة الواقع، بل هناك أمل ورجاء. أشار أيوب إلى تدخّل الله في مساعدة الإنسان مثلما يتدخل لمساعدة فراخ الغربان: من يهيِّئ للغراب صيده إذ تنعب فراخُه إلى الله  وتتردد لعدم القوت؟ (أيوب 38: 41)
أشار الملك داوود إلى صوت الغراب في مز147: 9: المعطي للبهائم طعامها، ولفراخ الغربان التي تصرخ.
الدرس لنا أن الغراب لا يستطيع أن يعتمد على قوّته الذاتية، بل الله قد أعد له الأكل والشرب. فكم بالحري الإنسان الذي خُلِق على صورة الله، ونفخ في أنفه نسمة الحياة، أي من روح الله. هكذا علينا ألّا نجعل الأمورَ الجسدية أولوياتِنا. فالطائر مثال لنا؛ وربما الحيوان والنبات، وكل ما نشاهده في هذا العالم. علينا أن نتعلم من صغائر الأمور أن الله قادر على مساعدتنا؛ ولكن علينا أولاً أن نطلب ملكوت الله وبرّه، وهذه كلها تزاد لنا.

اترك تعليقاً