لِمَن الحرب جميلة؟

الحرب جميلة للجندي الذي يسعى وراء الفخر ومن وفر حظّه فسلم من رصاص الأعداء ومن قنابلهم وغازاتهم وطياراتهم، بينما شاهد رفاقه يتساقطون حوله كما تتساقط الأوراق الذابلة في فصل الخريف. وعندما يعود من ساحة الحرب مبشرًا بالانتصار ترتفع هتافات الشعب من كل مكان مهللة بقدومه ظافرًا…
الحرب غنيمة للتاجر الذي لا يحلم إلّا بكثرة أرباحه، فيستغل الموقف ويغتنم فرصة انقطاع المواصلات التجارية، فيبيع ما عنده بأسعار فاحشة ويملأ خزائنه بالذهب الوهّاج، ويكيل بالمواعيد جزافًا لامرأته أنه إذا طالت الحرب فسيعمل لها حذاءً من ذهب. فهو لا يخاف من الحرب، بل يحبها ويعشقها طالما هو بعيد عن خطرها، وطالما تدرّ عليه الأرباح الكثيرة.
الحرب جميلة في نظر أصحاب معامل الأسلحة والمتجرين بها. هؤلاء يحولون المناجل إلى رماح، والسكك إلى سيوف ثم يبيعونها بسفك الدماء واحتكار ثروة العباد في صناديقهم، غير مبالين بأنين الجرحى وكثرة المحتضرين، بل همهم الوحيد ترويج تجارتهم كالجزارين الذين تقوم سعادتهم بكثرة ضحاياهم من الخراف الوديعة.
الحرب غبطة الديكتاتور الذي بيده مقدرات أمّته وعلى كلمته تتوقّف الحرب وبإرادته تملى شروط السلم. وعندما تنتهي المجزرة بفشله يعرف كيف يظهر أسفه وكيف ينتحل الأعذار ويضع اللوم على غيره في انكسار بلاده. أما في حالة انتصارها فهو وحده الظافر المنتصر وله وحده دون سواه يعود كل الفخر بأنه شيّد للوطن بناءً شاهقًا من المجد والسؤدد. وبعد مضيّ مدة قصيرة من الزمن عندما تندمل الجراح التي أوجدتها الحرب، وتعود ثروة الأمة شيئًا فشيئًا، لا يحجم عن إيجاد مشكلة يظهر فيها أنه لا يزال حيًا، فيزجّ بلاده بأتون من النار المستعرة ليوهم الناس أنه لا يزال يشتغل لراحة بلاده، ولا ينفك ساهرًا على مصالحها.
الحرب فرصة للصحافي لأنها موضوع غزير المادة، يستطيع أن يكتب فيها كلّ يوم ويملأ صفحات جريدته بوصف المعارك ونشر الأنباء والتلغرافات والبلاغات الرسمية، ويزاحم غيره في السباق إلى سرعة نشرها.
والحرب جميلة للشاعر إذا توسّع أمامه الخيال وتوجد له موضوعًا جديدًا للنظم والإنشاد، فيصبح في عالمٍ كان يجهله من قبل وكلما أجاد في وصف الحرب وسرد المواقع وتفصيل القتال، كان الشاعر البليغ الذي تخلّد اسمه الأمة وتحفظ ذكره مدى الدهر والأبد.
إذا كانت الحرب جميلة بنظر الجندي والتاجر وصانع الأسلحة والديكتاتور والصحافي والشاعر فما قولنا بالأمهات اللواتي يبكين فلذة أكبادهنّ وبالنساء اللواتي يخسرن أزواجهنّ. وما رأينا بتلك الأرملة التي أضعفت المصيبة جسمها وهدّت قواها. وما هو موقفنا من ذلك اليتيم الذي يندب أباه ولا يعلم أين ذهب ولا كيف مات. وما حكمنا في أمر هذه المرأة وقد كانت سيدة متنعمة في بيتها تعرض نفسها الآن كخادمة أو مرضعة. ما رأينا في تلك المسكينة وقد جلست وراء آلة الخياطة تشتغل على ضوء مصباح ضئيل وأطفالها حولها ينتظرون. ما رأينا في التنهدات التي تذيب الصخر والتأوّهات التي تفطر الأحشاء. بماذا نعزي ذلك الوالد العجوز وقد تصدّع قلبه بمقتل أولاده الأربعة وهم سنده في عجزه وشيخوخته فذهب ذلك السند وتهدم ذلك الصرح من الأماني والآمال. وهل ننسى الجيش من الأولاد الذين عضهم ناب الجوع بعد أن حرموا عناية الوالدين فاضطروا أن يمدوا أيديهم النحيلة المرتجفة بخجل وحياء إلى الميسورين والأغنياء، وهم يتمنون أن الأرض تفتح فاهها فتبتلعهم وتخفي وجوههم الندية التي لم تتعوّد الاستجداء. فهل فكّر مثيرو الحروب بهؤلاء وبالويلات التي تلحق البشرية جمعاء؟ …
(نُشرت في مجلة النشرة، عدد كانون الثاني 1940؛ بعد 4 أشهر على بدء الحرب العالمية الثانية)
 

اترك تعليقاً