التنافس على أرواح حلب: البعثات اللاتينية والبروتستانتية في الفترة العثمانية* – ترجمة القس جوزيف قصّاب

بقلم د. بروس ماسترز [1]
ترجمة القس جوزيف قصّاب

Image

المترجم

يُحتفل بأسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين سنوياً في الأسبوع الثالث من شهر كانون الثاني. وتهدف تسمية المناسبة التركيز على انقسام المسيحيين، وغض النظر عن واقع الكنيسة التاريخية وأسباب انقساماتها. لكن الأمانة العلمية والتاريخية توجب التساؤل بعد كل انقسام، ما هي الأسباب التي جعلت كنيسة تاريخية ما أن تخسر أتباعها لمصلحة كنيسة تاريخية أخرى؟ ثم ما هي الدروس التي نتعلمها من التاريخ والسياسة والإيمان واللاهوت في مسيرة كنيسة المسيح على الأرض.
إن قراءة هذا المقال المترجم عن الإنكليزية للمؤرخ بروس ماسترز يحصر إجابته عن الأسئلة أعلاه في تجربة محددة الجغرافية والتاريخ، هي مدينة حلب.
ما الذي جعل مدينة تتسم تماماً بالأرثوذكسية الشرقية تتحول بأغلبيتها الساحقة الى كاثوليكية روما خلال أقل من قرنين؟ ولماذا واجهت البروتستانتية ممانعةً من مسيحيي حلب الناطقين بالعربية في مقابل الترحاب من الناطقين بالتركية والأرمنية؟ ولماذا انعكس تراجع الكاثوليكية في الغرب نجاحاً في الشرق، فيما تأخر نجاح البروتستانتية في الشرق وبقي محدوداً؟
يقدم هذا البحث للمؤرخ بروس ماسترز آفاقاً للتفكير والتأمل من خلال دراسة مقارنة لعمل البعثات الكاثوليكية في حلب القرنين السابع عشر والثامن عشر، في مقابل عمل الإرساليات البروتستانتية في القرن التاسع عشر.


كانت المقاصد الأولى للبعثات الرومانية الكاثوليكية القادمة إلى الدولة العثمانية في القرن السابع عشر، وبعدها تلك الخاصة بالبروتستانت في القرن التاسع عشر، هو تبشير الرعايا اليهود في السلطنة. لقد أملت الإرساليتان بشدة أن يقبل مسلمو المنطقة المسيح كمخلصهم. لكن نجاحهما انتهى الى جذب انتباه المسيحيين المحليين، “المنشقين” تبعاً لتسميات الخطاب الكاثوليكي اللاتيني، و”المسيحيين الاسميين” تبعاً لأدبيات الخطاب البروتستانتي. وقد انتهى هذا التشابه السطحي بين الإرساليتين عند ذلك الحد، في حين كان التباين في طموحاتهما مختلفاً للغاية.
كانت استراتيجية الكاثوليك اللاتين، التي ولدت من رحم “الإصلاح المضاد” Counter Reformation في أوروبا، هي التودد الى إكليروس الكنائس الشرقية الارثوذكسية بقصد اجتذابهم الى الشركة مع روما. وقد أمنت لهم هذه الاستراتيجية منع انتقال عدوى البروتستانتية التي أطلقوا عليها اسم “بدعة – هرطقة”. فاللاتينيون الكاثوليك كانوا مستعدين أن يغضوا الطرف عن أي اختلافات عقائدية موجودة، والتسامح مع الرموز الخارجية للإيمان الارثوذكسي من أيقونات وملابس وألقاب، غير عابئين بأن تبقى كما كانت دائمًا. كان رجال الدين الرومان الكاثوليك يرتدون العمائم مثل نظرائهم الشرقيين. لكن مهمتهم كانت ذات نوايا سياسية مؤكدة تم تصميمها لتوسيع سلطة البابا من خلال إقناع كبار رجال الدين من كنائس الشرق لقبول أسقف روما كأول بين متساوين. في حين كان للمسيحيين المحليين أهدافهم السياسية الخاصة بهم أيضاً، الأمر الذي أدى في النهايةً الى ظهور الكنائس التوحيدية Uniate Churches (وهي الكنائس الشرقية الأرثوذكسية التي التحقت بروما مع احتفاظها بطقوسها وممارساتها).
أما المبشرون البروتستانت فكانوا نتاج “النهضة الروحية الكبرى الثانية” في العالم الأطلسي الناطق بالإنجليزية، والتي ولدت جزئيًا نتيجة ردة فعل على علمانية ناشئة قامت بها نخب من بريطانيا والولايات المتحد احتضنت أفكار كتّاب عصر التنوير. وعلى عكس استراتيجية الكاثوليك، شددت هذه الحركة الانجيلية على الخلاص الفردي وضرورة تبشير أولئك الذين لم “يخلصون” بعد، سواء كانوا من الوثنيين” أو “المسيحيين الاسميين”. تبعا لذلك، وضع البروتستانت جهداً عالياً في سبيل محو الأمية الكتابية والسعي للتحول الروحي للمسيحيين المحليين على أساس فردي من خلال التعليم المسيحي. كان للإرساليات البروتستانتية توجهات سياسية غير مقصودة رغم اهتمامهم بخلاص النفوس، حيث اتخذ المبشرون خيارًا واعيا للتركيز على اللغات العامية لطلابهم، بدلا من تعليمهم لغتهم الإنجليزية أو التركية العثمانية التي كانت اللغة الرسمية للدولة.
غالباً ما يركز المؤرخون الغربيون على أشخاص المبشرين بدلاً من التركيز على أولئك الذين يقررون إذا ما كانوا يريدون تحويل مذهبهم أم لا. إذ يندر أن ترى في كلا محفوظات مجموعتي المبشرين، التي تركوها للأجيال القادمة، “روايات تحول” كتبها المتحولون أنفسهم. لقد تم التقليل من شأن دوافع التحول الموجودة في السرد التاريخي عموماً. فاكتفى المؤرخون بإبراز رغبة المتحولين الى “الحق” هروباً من تحجر تقاليد المسيحية الشرقية. هذا لا يعني بالطبع أن قضايا الروحانية غابت عن عملية الاهتداء عند الكثير من الأفراد. وسوف يلقي هذا البحث نظرة ثانية على الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية في مدينة حلب، لفحص ما إذا كانت أسباب نجاحها وإخفاقاتها تُعزى إلى عوامل خارجة عن تلك الاحتياجات الروحية وحدها.
وفرت حلب خلفية ممتازة لدراسة مقارنة للإرساليتين. فعلى الرغم من انخفاض عدد سكان المدينة في القرن التاسع عشر عن الأعداد المرتفعة التي كانت معروفة في القرن السابع عشر، ظلت المدينة موطنًا لأكبر تجمعٍ للمسيحيين في الولايات العربية العثمانية في أربعينيات القرن التاسع عشر، عندما قام المبشرون البروتستانت بتأسيس “حقل للخدمة” هناك. أما الخلفية الثانية فتتمحور حول أهمية حلب التجارية. لقد كانت حلب باستمرار مضافةً للأوروبيين المقيمين والتجار وقناصلهم. فالفرص التجارية التي كانت متوفرة وسعت نطاق ما كان ممكناً لمسيحي المدينة، خصوصاً أولئك الذين أرادوا دخول ميدان التجارة مستفيدون من تنوع سكان حلب وتوفر فرص الشراكة الاقتصادية مع التجار الأوروبيين. وغالبًا ما كان الوجود الدبلوماسي الغربي بمثابة درع للمشروع التبشيري ضد تدخل الدولة العثمانية وسلطاتها المحلية.

البعثة التبشيرية الكاثوليكية

اتخذ المبشرون الكاثوليك في عام 1627 حلب مقراً دائماً لهم. في البداية، وجدوا الترحاب الحار من الأرمن الارثوذكس الذين منحوهم الإذن للقيام بالقداس وغيره من الأسرار المقدسة في كنيسة Surp Karsunk التي كان قد تم بناؤها مؤخرًا لتكون كرسياً لكاثوليكوس سيس. كما رحب باللاتين كبار رجال الدين الروم الأرثوذكس ومنهم المتروبوليت مالاتيوس كرمة، إذ سُمحَ لليسوعي جيروم كييرو بفتح مدرسة في منزل إقامته عام 1629. سرعان ما ضمت تلك المدرسة ما يقرب من ثلاثين تلميذاً تم تعليمهم باللغة اليونانية والعربية والإيطالية. يبقى التعلي، إلى جانب الطبابة، ركيزة أساسية للبرنامج التبشيري.
وبالنظر الى الدعم الذي أتى من رجال الدين الذين يمثلون جميع الطوائف المسيحية الموجودة في حلب، كان أعظم نجاحٍ للمبشرين الكاثوليك في البداية هو تحولات فردية بين اليعاقبة، المعروفين محليًا باسم “سريان”. كان هؤلاء أصغر وأفقر الطوائف المسيحية في المدينة التي كانت تضم إلى جانب اليعاقبة، الموارنة والأرمن والروم الأرثوذكس. وبحلول نهاية القرن السابع عشر، قدر أحد المصادر التبشيرية أن ثلاثة أرباع السريان في حلب قد تحولوا الى كاثوليك. لقد ظهر أن اليعاقبة يقبلون على الكاثوليكية بأعداد لا تتناسب مع حجمهم من إجمالي عدد السكان المسيحيين في المدينة. ويعود النجاح الكاثوليكي بين السريان إلى حقيقة أن معظم أعضائهم كانوا من المهاجرين الجدد إلى المدينة، الذين ربما شعروا بالارتباك نتيجة انفصالهم عن قيادتهم التقليدية في الأديرة في مدينة ماردين.
نشأ طرفُ كاثوليكي بين طائفة الروم الأرثوذكس في حلب، المعروفة محليًا باسم الروم. من اللافت أن نشأة هذه المجموعة بدأت كتعبير عن المشاعر المحلية القوية بين الروم، أكثر منه تحولاً أيديولوجياً إلى اللاتينية. كان مجتمع الحلبيين أكثر ثراءً من نظرائهم الدمشقيين. ولا بد أنهم استاءوا من الصوت الغالب لعلماني ورجال دين دمشق في اختيار من سيجلس في الكرسي البطريركي لأنطاكية الموجود في دمشق في العهد العثماني. وبوفاة البطريرك مكاريوس الثالث في عام 1672 من مواليد حلب، انتخب الأرثوذكس في دمشق حفيده قسطنطين ليحلّ محله، على الرغم أنه – بحسب بعض الكتاب الأرثوذكس – كان ذا كفاءة متواضعة. اتخذ البطريرك اسم “كيريلوس” اسماً أبوياً له. ورغم أنه لم تتم استشارة الحلبيين بشأن ترقيته، وقف عدد كبير من الروم أمام رئيس قضاة حلب وأعلنوا ولاءهم لكريلوس بصفته بطريركهم. وأضافوا دون مبرر أنه كان ابن مدينتهم وله أخلاق حميدة ولغة عربية ممتازة.
أبطل بطريرك القسطنطينية انتخاب كيريلوس ورفّع مرشحه إلى كرسي أنطاكية لأنه كان يخشى أن الشاب كيريلوس هو تحت تأثير الحزب الموالي للكاثوليكية في سوريا. واجه الفرنسيون وتجار حلب هذا التدخل من بطريرك القسطنطينية، وكلاهما أنفقا فضتهما بسخاء لإعادة كيريلوس بأمرٍ من السلطان عام 1681 ليثبت بطريركًا حتى وفاته عام 1720. كان هذا إيذانًا ببدء ضغوط سياسية مكثفة من قبل الأحزاب الكاثوليكية والتقليدية الارثوذكسية. سعى كل منهما إلى رشوة السلطات العثمانية لتعيين الرجال الذين يختارونهم في المناصب الكهنوتية العليا. وقد أدى استعداد خدام السلطان للعب بين الطرفين مقابل المال المدفوع إلى نهاية مفاجئة. ففي عام 1695، مع محاولة احتلال البندقية لجزيرة “خيوس”، انسحب معظم رجال الدين الكاثوليك المحليين مع القوات الفينيسية في أعقاب الخسارة. وقد وفر هذا الأمر سلاحاً جديداً للحزب الأرثوذكسي في اسطنبول ليستخدمه ضد خصومه الكاثوليك.
خلال ذلك الجدال القائم، أشار الأرثوذكس إلى “التغرب” كظاهرة جوهرية للكاثوليكية – والتي يشار إليها عادة في الوثائق العثمانية باسم “Frenk Dini”، أي “دين الفرنجة”. أكد الارثوذكس ولاءهم للسلطان وأنهم الورثة الشرعيون للتقليد المسيحي في الشرق، وأن الكاثوليك يمثلون خطيئة مخترعة رهيبة. وكان من الطبيعي أن يوافق السلطان على أي حجة تتصف بالإقناع الأكثر. ففي حين أنه لم يستطع طرد الكهنة اللاتين من السلطنة بسبب المعاهدات المبرمة مع الأوربيين، كان يحرص أن يبقى اتصالهم مع السكان المحليين محدوداً. وقد أتبع موقفه هذا بأوامر دورية منعت الكهنة اللاتين من التعليم وعلاج المرضى أو تقديم الأسرار للمسيحيين العثمانيين.
لكن هذه الإجراءات لم تفعل إلا قليلاً لوقف انتشار الممارسات الكاثوليكية. وبحلول بداية القرن الثامن عشر، كان قد تم إرسال كوادر من طلبة لاهوت سوريين الى روما لتدريبهم ورسامتهم هناك. عاد هؤلاء الى وطنهم مستعدين لتقديم الأسرار لمن يقبلها. من بين هؤلاء كان هناك حوالي خمسين حلبياً قد درسوا في روما على مدار النصف الثاني من القرن السابع عشر للخدمة في مدينتهم الأصلية. وقد وصل الأمر بهؤلاء الاكليركيين القادمين الى حد احتلال فعلي لبعض الكنائس المرتبطة بمجتمع الروم الارثوذكس والأرمن واليعاقبة. وبما أن العديد من الناس كانوا موافقين على الميل باتجاه روما، لم يكن بإمكان رجال الدين التقليديين إلا البقاء عن بعد وهم يستشيطون غضباً. كان الكاثوليك ينتصرون عليهم من خلال اقتناص الأفضل والألمع من مسيحيي حلب.
إن أسباب هذا الانجذاب الحلبي الى الاتحاد بروما لا يمكن سبره إلا بالتكهن فقط. هناك اثنان من الباحثين في القرن العشرين قدما تفسيرات متباينة تماماً عن أسباب هذا الانجذاب. فبينما يقدم روبير حداد سبباً مادياً لتبدل الناس من الارثوذكسية الى الكاثوليكية، يبرز برنارد هيبرغر سبباً روحياً. بالنسبة لحداد، كان الوعد الفرنسي بحماية الكاثوليك حافزاً مقنعاً للناس، مشيراً أنه في المدن حيث كان الحضور الديبلوماسي الفرنسي قوياً، استطاع الكاثوليك أن يحققوا انتصاراتهم. لكنه يرى أن الأهم من ذلك كان توفير التواصل الأخوي مع الأوروبيين الذي وعدت به الكاثوليكية، والذي شكل إغراءً أساسياً لطبقة التجار المسيحيين في سوريا لاحتضان الخيار الكاثوليكي. يستشهد حداد أيضاً ببعض الأسباب المتعلقة بتساهل العقيدة الكاثوليكية تجاه بعض المتطلبات مثل الصيام وتعريف القرابة في الزواج الكنسي، مقارنةً مع الممارسات الأرثوذكسية. هذا التساهل كان مقنعاً للمرتدين عن مذهبهم الارثوذكسي الى الكاثوليكية.
أما هيبرغر فيقدم بالمقابل تفسيرًا روحياً لانشقاق مسيحيي المدينة في حلب تجاه روما. يورد هيبرغر أن التقليد الأرثوذكسي في سوريا قد أصبح تقليداً محتضراً، ولم يعد يشبع المؤمنون التواقون الى الروحانية. فيما الكاثوليكية على النقيض من ذلك أطلقت ولادة روحية جديدة بين مسيحيي سوريا من خلال التشكيك في التقاليد المتعارف عليها. ففي مقابل المحسوبية والفساد السائد بين رجال الدين الارثوذكس، عرضت الكنيسة الكاثوليكية فرصة جديدة للإصلاح من خلال تجنيد وتأهيل الشباب الملتزمين والمستعدين لتلبية الاحتياجات الروحية لمجتمعهم. يدعم تفسير هيبرغر الشكاوى الدورية المسجلة في محاكم قاضي حلب من قبل العلمانيين المسيحيين الأرثوذكس في القرن السابع عشر حول إساءة استخدام السلطة من قبل رجال الدين.
حصل الانقسام المفتوح في مجتمع الروم الديني في عام 1725 عندما قام السلطان العثماني بإلحاح من بطريرك القسطنطينية بتعيين سيلفستروس من قبرص بطريركاً على أنطاكية. عندها قام معظم المجتمع الحلبي بتقديم دعمه إلى كيريلوس تاناس ابن مدينة حلب الذي رفّعه البابا إلى مرتبة البطريركية عام 1729، فأنشأ كرسياً كاثوليكياً للكرسي القديم. كانت تلك بداية ولادة الكنيسة الكاثوليكية اليونانية/الملكية. بعد ذلك بوقت قصير، اعترفت روما باليعقوبي الكاثوليكي المنفصل والبطاركة الأرمن. وانضم هؤلاء إلى البطريرك الماروني الذي اعترف رسمياً بسيادة روما في القرن الثامن عشر. كذلك كان الأمر بالنسبة لكاثوليكوس الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية التي انفصلت عن بطريركها التقليدي في القرن السابع عشر عبر تشكيل ما هو معروف اليوم بالكنائس التوحيدية Uniate Churches. وعلى الرغم أن السلطان لم يعترف رسمياً باستقلال الملكيين الكاثوليك في حلب حتى عام 1821، وكملّة من مللّ السلطنة حتى عام 1831، إلا أن ما يقرب من ثلاثة أرباع السكان المسيحيين في حلب في عام 1800 كانوا موالين لواحدة أو أخرى من الطوائف الكاثوليكية الخمس التي كانت ممثلة في المدينة. نجح المبشرون الكاثوليك إلى حد كبير في كسب معركتهم لصالح “الإصلاح المضاد” Counter Reformation في حلب. ففي حين أن المسيحيين لم يصبحوا رومانيين، لكنهم كانوا بالتأكيد كاثوليكاً.
لا بد هنا من الإشارة أيضاً الى العوامل الجيوسياسية في حلب، في محاولة لتفسير جاذبية الكاثوليكية للطوائف الارثوذكسية الثلاث. فالمراكز الكنسية للكنائس “التقليدية” الثلاث: الروم الأرثوذكس، السريان اليعاقبة، الى جانب الرسولية الأرمنية التي ترأسها بحلول القرن الثامن عشر بطريركهم في اسطنبول بعيدًا عن حلب؛ كان جناح الارثوذكسية أقل تأثيراً بين رجال الدين في حلب مقارنةً مع إخوتهم في أماكن مثل دمشق أو ماردين. لقد مكنت الكاثوليكية في حلب أتباعها من استكشاف الحوار مع نظرائهم الغربيين بطريقة أكثر انفتاحًا. وازدهرت أعمال التجار المسيحيين في حلب فأرادوا كنيسة مستجيبة لآرائهم. وطالبوا في أوائل القرن الثامن عشر بأن يكون المطران الأرثوذكسي في المدينة دائمًا من بين المقربين لهم. وكانوا يطلبون هذا من بطريركٍ هو نفسه واحدًا منهم ومدعوماً من قبلهم. إضافةً، إن وجود رجل دين لاتيني ناشط في المدينة يقدم التعليم والخدمات الأخرى لا بد أنه ساعد التجار العلمانيين الذين يعملون مع الأوروبيين على التشكيك في فعالية الكنائس التقليدية الارثوذكسية في حياتهم. ببساطة، وفرت الكاثوليكية رافعة للحلبيين للسيطرة على كنيستهم، حيث كانت تلك هي المساحة السياسية الوحيدة المتاحة للمسيحيين في فترة السلطنة العثمانية.

الإرسالية البروتستانتية

 نشأ الدافع الإرسالي البروتستانتي من حركة إنجيلية تدعى “النهضة الكبرى”، انتشرت عبر الأطلسي الناطق باللغة الإنجليزية ابتداءً من العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر. لقد عكست المجتمعات التبشيرية البروتستانتية التي تشكلت في تلك الفترة تفاؤلاً وثقةً بالنفس ومعرفة متنامية للقراءة والكتابة في العالم الأنجلو ساكسوني وزيادة في الإصرار بين العلمانيين على نشر الإيمان في عوالم جديدة في الخارج. كانت الحركة شعبية في قلبها، حيث أن رجالاً ونساء من العاديين شعروا بدعوة عليا للخدمة بين “الوثنيين”، أو على الأقل في دعم تمويل أولئك الذين قبلوا “دعوة” الذهاب كمرسلين. لقد امتازت الحركة بالحماس البريء للشهادة “لنور المسيح”. لكنها امتازت أيضًا بقناعة متغطرسة أن الثقافة الأنجلو ساكسونية أعلى من أي ثقافة سيتواجه معها المرسلون في أسفارهم. لقد تقاسم الأمريكيون والبريطانيون هذه الثقة في الحداثة، والمتأتية من الثقافة الإنجليزية أكثر من تأتيها من رسالتهم الدينية، الأمر الذي سيكون له أكبر الأثر على سكان الإمبراطورية العثمانية.
أنشأ المرسلون الأمريكيون بدايةً محطات إرساليتهم في البلدات والقرى في ما يعرف اليوم بلبنان، لكنهم كانوا دائمًا يبحثون عن “مجالات إرسالية” أخرى. وعلى الرغم من أن حلب مرت بأوقات اقتصادية عصيبة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث انخفض عدد سكانها بشكل حاد عما كانت عليه عند وصول المرسلين الكاثوليك، إلا أن المدينة استطاعت جذب المبشرين البروتستانت على الرغم من ذلك. إنها نفس الأسباب التي لفتت انتباه اللاتين لحلب في وقت سابق، ومنها العدد الكبير لسكانها المسيحيين، وقربها من القرى المسيحية المتناثرة في شمال العراق وجنوب شرق تركيا. هذا بالإضافة إلى سبب أشارت إليه تقاريرهم المبكرة، وهو الاهتمام بالسكان العلويين في سواحل سوريا. لقد تنبأ المبشرون أنه سيكون من السهل كسب العلويين للمسيح. لكننا نجد أيضاً تقييماً مختلفاً تماماً  للوضع في حلب أتى على فم المبشرين. لقد وجد البعض أن المدينة كئيبة ومتداعية وغير واعدة. وعلى الرغم من ذلك، أوصت اللجنة المسؤولة في عام 1846 بإنشاء محطة إرسالية في المدينة، بمجرد أن يتقدم مبشر محمولاً بالدعوة، مناسباً ومستعداً للذهاب الى حلب.
وصل ويليام بنتون William Benton و ج. إدواردز فورد J. Edwards Ford في 19 أبريل 1848 مع زوجتيهما الى حلب، مستعدين لإنشاء محطة إرسالية مهمة في المدينة. وفي رسالة الى الداعمين من الولايات المتحدة، أوجز المبشرين في تقريرهم السنوي لعام 1849 عن التقدم الذي أحرزوه، وكيف أنهم وجدوا “المسيحيين البابويين” المحليين لطفاء، لكنهم عنيدون في التمسك بارتباطاتهم القديمة، مع وجود عدد قليل منهم على استعداد لحضور خدمات العبادة الأسبوعية. لخص المبشرون إحباطهم على النحو التالي:
“من النادر أن نتحدث معهم لمدة نصف ساعة دون أن ندخل في نزاع ديني وأحاديث يظهرون فيها أنهم راضون عن الإيمان الذي رافق آباءهم ويصرون على السير في طرقهم القديمة. يعترفون بسهولة بالسلطة العليا للكتب المقدسة ولكن دون أي تراجع عن تقاليدهم، ومن دون إعطائنا أسباباً منطقية للعديد من مقولات عقيدتهم وممارساتهم.”
كان الحلبيّون الحديثي التحول الى الكاثوليكية في القرن الثامن عشر يتذرعون بالادعاء أنهم كانوا يتبعون تقاليد أجدادهم عندما قدمهم رجال دينهم التقليديون الارثوذكس أمام المحكمة الإسلامية بتهمة البدعة. ولكنهم بحلول منتصف القرن التاسع عشر، أصبحوا على حق.
على عكس المبشرين الكاثوليك الذين توقعوا أن النجاح لن يتحقق إلا بمرور الوقت، بدا المبشرون البروتستانت الأمريكيين مذهولين أمام افتقارهم إلى النجاح الفوري. ففي تقريره السنوي لعام 1850، أفاد فورد أن متوسط الحضور في خدمات العبادة كان عشرين شخصًا فقط. لكن الأهم بالنسبة لمستقبل البعثة البروتستانتية في المدينة، كان الإشارة أن عدد الحاضرين في خدمات العبادة من الناطقين باللغة العربية في انخفاض، بينما بدا أن البعثة تكتسب قوة بين سكان المدينة الأرمن. لهذا السبب طلبت البعثة بإصرار شخص يمكنه ترجمة العظات إلى التركية، وهي اللغة التي تحدث بها الأرمن المهاجرون حديثًا من الأناضول، لسبب أن معرفتهم باللغة العربية كانت طفيفة.
يعكس هذا الطلب لمترجم اتجاهًا ديموغرافياً كانت السلطات العثمانية قد أدركته مؤخرًا، وهو أن الأرمن من الأناضول بدءوا بالهجرة إلى حلب بأعداد كبيرة. خلق هذا الوضع انقسامًا لغوياً بين العائلات الأرمنية القديمة الراسخة في المدينة والتي كانت في الغالب كاثوليكية ومندمجة ثقافياً في المدينة مع الأغلبية العربية التي تتحدث اللغة العربية، وبين الوافدين الجدد الموالين للكنيسة الأرمنية الرسولية، الناطقين باللغة التركية. لقد تم العثور على أدلة للهجرة في سجل الجزية للمدينة من 1844، حيث تم تسجيل 727 “غريبًا” من إجمالي 5041 من الذكور البالغين المسيحيين واليهود. معظم هؤلاء “الغرباء” حملوا أسماء أرمنية، وأكثر من نصفهم جاءوا من موقعين فقط، ساسون وأرابغير. وكان قد تم تسجيل جميع المهاجرين الجدد تقريبًا في أدنى فئة من دافعي الضرائب إذ كان معظمهم من أصحاب المهن المتواضعة.
أنشأ المرسلون من الكنائس الجمهورية Congregational الأميركية مدرسة للبنات في حلب عام 1852 في محاولة لجذب الناس الى البروتستانتية. لكن سرعان ما أغلقت تلك المدرسة أبوابها لسبب عدم الاهتمام. لقد تم إلقاء اللوم في فشل المدرسة على النساء الكاثوليكيات اللواتي كن يقفن خارج المدرسة ويضايقن شفاهاً الأهل الذين يحاولون إحضار بناتهم إلى المدرسة. أقرّ المرسلون البروتستانت أيضًا أن الكاثوليك بنوا مدرسة جديدة للبنات جذبت يومياً مائة تلميذة، بينما تراوحت معدلات الالتحاق بمدرسة الإرساليات بين 6 – 16 تلميذة. ومع عدم وجود أي جديد يقدمه المبشرون البروتستانت الى كاثوليك حلب، واجه المبشرون جدارًا من اللامبالاة من “البابويين اليونانيين” أثناء محاولاتهم للتبشير في المدينة. أوضح دبليو إدي W. Eddy في رسالة إلى The Missionary Herald بتاريخ 5 ديسمبر 1855، أن “الكاثوليك الهراطقة كانوا منغمسين في الأعمال التجارية ومولعين بالمتعة، ولم يكن لديهم ما يطلبه الإنجيل من عقل أو روح.”
أغلقت الإرسالية في حلب، وقام إدي بطلب نقله من حلب في حالة من الإحباط ليبدأ “ارسالية أرمنية” في مدينة عينتاب على بعد سبعين ميلاً إلى الشمال. كما تم نقل شريكه جوشوا فورد، المتحدث العربية بطلاقة إلى بيروت. لم ينجح الأمريكيون على الإطلاق في كسب قلوب وعقول مسيحيي حلب. قدّر القنصل البريطاني في المدينة عام 1860 عدد البروتستانت في حلب بـ 40 بروتستانتياً. كل ذلك بعد عقد من الجهود التبشيرية. عاد الأميركيون بعدها الى حلب في عام 1861، لكن كجزء من إرسالية “وسط تركيا”، وليس كمحطة في إرسالية سوريا التي كان مركزها بيروت. هذا التحول في الاختصاص عكس أن الرسالة البروتستانتية كانت تقع على آذان صماء في حلب عندما كانت تتلى بالعربية. إنها اللغة التركية والأرمنية التي كانت تقام فيها الخدمات هي التي جذبت الرعية. وفي مناسبة الذكرى العشرين لمحطة حلب الأرسالية، أورد ديفيد نوتنغ في التقرير السنوي لعام 1868، السبب التالي لفشل المرسلين مع المتكلمين باللغة العربية، مرددًا أسباب إدي لترك المحطة قبل عقد من الزمان:
“لقد تم اعتبار حلب حقلاً صعبًا. فكون حلب المركز التجاري الكبير لجميع المنطقة، فإن معظم الناس منخرطون في النشاطات التجارية لدرجة أنهم نادرًا ما يفكرون في العالم الآتي.”
تأسست محطة “إرسالية عينتاب” في البداية على أنها مجرد محطة فرعية لمحطة إرسالية حلب. وقد سجل الكتاب السنوي العثماني لمحافظة حلب أنه في عام 1914 وجد في عينتاب 89769 مسلمًا، و67 يونانياً أرثوذكسياً، 14466 أرمن رسولي، 860 يهودياً، 7 يونانيين كاثوليك، 393 الأرمن الكاثوليك، و4635 البروتستانت. كان لدى أرمن عينتاب في أواخر القرن التاسع عشر العديد من أوجه التشابه مع مسيحيي حلب قبل قرنين من الزمان. فقبل القرن التاسع عشر، كان عدد السكان الأرمن في عينتاب صغير نسبيا. لكن مع حلول منتصف ذلك القرن، شهدت المدينة طفرة تجارية صاحبها نمو في إنتاج السلع التصديرية مثل القطن والتبغ في القرى المحيطة بالمدينة. دفع هذا مئات الأرمن إلى مغادرة قراهم إلى الشمال والشرق للبحث عن حياة جديدة في المدينة. أيضاً، كان هناك عاملٌ دافع آخر لهجرة المسيحيين الأرمن الى عينتاب تمثل في ارتفاع مستويات العنف بين الطوائف، حيث قام رجال القبائل الكردية بنقل قطعانهم إلى الوديان التي كان الأرمن يزرعونها عادةً. وفي عينتاب كثر أولئك المهاجرون الذين أسسوا أنفسهم كحرفيين وصغار تجار.  هؤلاء هم الذين ذهبوا إلى حلب ليطلبوا من المبشرين الأمريكيين القدوم إلى مدينتهم وبناء مدرسة، الأمر الذي تحقق من خلال تأسيس كلية وسط تركيا عام 1872.

خلاصة

لقد اعتبر كلا المبشرين من اللاتين والبروتستانت أن التعليم طريق أساسي لكسب المتحولين الى مذهبهم. كلاهما كان واثقًا بنفس القدر من ذلك. وكلاهما اتفقا أن الجهل فقط هو الذي منع “المنشقين”، أو “المسيحيين الاسميين” من قبول “الحق” الذي قدموه. وفي كلٍّ من حلب القرن السابع عشر والثامن عشر، وعينتاب النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظهرت طبقة وسطى تجارية ناشئة بين المسيحيين الذين وفر لهم التعليم الغربي إمكانية اقتصادية للتقدم، الى جانب التواصل مع الغرب القوي. في كلتا الحالتين، ازداد عدد السكان المسيحيين في المدينة بسبب الموجة الأخيرة من الهجرة للسكان الريفيين سابقًا، والذين كان استعدادهم النفسي يؤهلهم للبحث عن شبكات اجتماعية جديدة، وربما عن إيمان جديد.
كانت محافظة حلب المشمولة ببلدة عينتاب هي الأعلى من حيث نسبة المسيحيين الذين استجابوا للكاثوليكية والبعثات البروتستانتية. كانت حلب وعينتاب الأكثر ملاءمة من بين مدن الإمبراطورية العثمانية لتلقي خطاب كلتا الإرساليتين. تم إطلاق طبقة وسطى مزدهرة ظهرت لتوها في كلتا المدينتين خلال قرون من عمل البعثات المعنية.  ومع حلول نهاية القرن السابع عشر، بدأ المسيحيون من جميع المجتمعات التقليدية في حلب في الظهور، وسعى الأثرياء إلى ترجمة تلك الثروة إلى قوة سياسية. لقد تزامن صعودهم مع تحركات ارثوذكسية لجعل مركز سلطة الكنيسة في اسطنبول مع البطريرك المسكوني الأرثوذكسي، وبطريرك القسطنطينية الأرمني الرسولي. كلا البطريركين سعى إلى تعيين مرشحين من اختياره ونادرًا ما كان هؤلاء من السكان المحليين. فيما على النقيض من ذلك، كان الأب الأقدس في روما أكثر من راغب في الاعتراف بالسكان المحليين طالما أنهم يعترفون به كزعيم روحي لهم. إنها مقايضة بسيطة كان التجار المسيحيون على استعداد لقبولها.
أصبح المسيحيون الكاثوليك في حلب بحلول القرن التاسع عشرة مرتاحين مع رجال دينهم الجدد، ولم يروا أي سبب للتخلي عنهم من أجل أي تدبير بروتستانتي جديد. إضافة إلى ذلك، إن الروابط التي قدمتها كنائسهم مع الغرب الكاثوليكي خفف من الحاجة إلى إقامة تواصلٍ مع العالم الأنجلو ساكسوني البروتستانتي. أما بالنسبة لأرمن عينتاب في أواخر القرن التاسع عشر، فقد قدم المبشرون الأمريكيون نفس الفرص للإصلاح والتجديد الروحي والروابط مع الإخوة والأخوات الغربيين في المسيح، فاستجابوا لها بشكل إيجابي لنفس الأسباب التي اختارها المسيحيون في حلب في اتباعهم الكاثوليكية قبل قرنين من الزمان.


[1]Bruce Masters, ARCHAEOLOGY & HISTORY IN THE LEBANON ISSUE TWENTY TWO: AUTUMN 2005
   [1] مؤرخ وحاصل على دكتوراه  من جامعة شيكاغو في لغات وحضارات الشرق الأدنى ومجالات التاريخ العثماني والشريعة الإسلامية

اترك تعليقاً