استفانوس: الشاهد الشهيد – الواعظ خيرالله عطالله

يعتبر استفانوس الشهيد الأول في المسيحية والشخص الأول الذي يموت بسبب التزامه بالإيمان بالرب يسوع على أنه المسيح وأنه ابن الله المقام من بين الأموات. والمعروف عن استفانوس كما يخبرنا سفر أعمال الرسل أنه كان من بين الأشخاص السبعة المختارين من قبل الرسل ليكونوا الشمامسة الأوائل في تاريخ الكنيسة، كما كان شخصاً مشهوداً له بأنه مملوء بالإيمان والروح القدس (أعمال 6: 5)، وأن الجميع كانوا لا يقدرون أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به (أعمال 6: 10)، وبذلك كانت حياة استفانوس شهادة حية على عمل الرب يسوع في حياته وحضور الروح القدس في تصرفاته وأفعاله.
في اللغة اليونانية التي كتب بها العهد الجديد تحمل كلمة (μαρτυρια مارتوريّا) معنى مزدوجاً الأول هو الشهادة أي الإخبار عن شيء ما وإعلانه والتصريح به، والثاني هو الاستشهاد أي بذل النفس والموت دفاعاً عن قضية ما أو تمسكاً بها. ولا يقتصر هذا الترابط اللغوي بين الشهادة والاستشهاد على اللغة اليونانية فقط، بل نراه أيضاً في لغتنا العربية حيث تعود الكلمتان شهادة واستشهاد إلى الجذر اللغوي نفسه -شهد-. وبالتالي ليكون المرء شهيداً يجب عليه أن يخبر ويعلن ويصرح عن فكر أو قضية معينة وأن يكون مستعداً لقبول الموت من أجل ما يشهد عنه، وبهذا المعنى فإن استفانوس قد شهد للإيمان المسيحي وأعلنه وصرح به حتى وصل إلى مرحلة مات فيها واستشهد بسبب شهادته وإعلانه لهذا الإيمان، فكان بذلك الشاهد حتى الاستشهاد.
 
     وهذا يقودنا إلى السؤال المهم: ما هي القضية التي شهد لها استفانوس في حياته وكان مستعداً أن يموت من أجلها؟ وما هي الفكرة التي أعلنها استفانوس وتبناها في حياته إلى درجة أنه بذل نفسه دون التخلي عنها أو المساومة عليها؟
من المؤكد أن قضية استفانوس وشهادته الأولى والأخيرة هي ليسوع المقام من بين الأموات، ولإعلان الإيمان أن هذا الشخص الذي مات ودفن وقام هو ابن الله، والمسيح مخلص العالم، وابن الإنسان الجالس عن يمين الله. فالقضية الرئيسية والفكرة العامة التي شهد لها استفانوس حتى الاستشهاد هي باختصار تبني وعيش فكر يسوع الناصري في حياته وموته وقيامته، لكن إن أردنا الغوص في عمق الأشياء لنعرف بمزيد من التفصيل وبدقة أكبر ما هي الفكرة الخاصة والمباشرة التي شهد لها استفانوس وقادته إلى الموت، فعلينا أن نقرأ خطابه الأخير قبل رجمه وموته كما يقدمه لنا الإصحاح السابع من سفر أعمال الرسل.
 
     في هذا الخطاب يعيد استفانوس قراءة العهد القديم بالتركيز على عدد من الشخصيات المحورية الهامة في تاريخ الشعب من جهة، وعلى الأماكن التي كانت الأحداث تجري فيها من جهة أخرى. فيبدأ استفانوس خطابه بالحديث عن ابراهيم ودعوة الله له عندما كان ساكناً في بلاد ما بين النهرين لكي يرتحل إلى حاران ومنها إلى أرض كنعان (أعمال 7: 2-4)، ثم ينتقل للحديث عن يعقوب وأولاده الاثني عشر الذين باعوا واحداً منهم وهو يوسف إلى مصر راوياً كيف كان الله معه وهو في مصر وأنقذه من جميع ضيقاته وأعطاه الحكمة ليصير مدبر البلاد (أعمال 7: 9-10). وبعد ذلك يروي استفانوس قصة موسى الذي التقى بالرب في العليقة المشتعلة في أرض مديان وأرسله ليقود الشعب في رحلة الحرية من العبودية، ويحكي أيضاً كيف صنع الرب عجائب وآيات في أرض مصر وفي البحر وفي البرية طوال رحلة الشعب إلى أرض كنعان (أعمال 7: 20-43). وفي الختام يتكلم استفانوس عن خيمة الشهادة التي كان الشعب يحملها معه من مكان إلى مكان طوال رحلة البرية رمزاً لحضور الرب في وسط الجماعة وصولاً إلى سليمان الملك الذي يبني الهيكل في أورشليم (أعمال 7: 44- 50).
إن العنصر المشترك في كل ما رواه استفانوس في خطابه الأخير هو أن الشخصيات المحورية في تاريخ الشعب قد اختبرت مجد الله وحضوره في أماكن مختلفة وأراض غريبة بعيدة عن أرض كنعان وبعيدة عن الهيكل في أورشليم، فابراهيم قبل دعوة الله في بلاد ما بين النهرين، ويوسف كان الله معه في مصر، وموسى رأى الرب في العليقة المشتعلة في أرض مديان، والشعب كله رأى مجد الله وصنائعه في مصر وفي البحر الأحمر وفي البرية، وحتى عندما بنى سليمان الهيكل فقد عجز أن يحصر الله في بقعة جغرافية محددة وحيز مكاني معين لأن “العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات أيادي” (أعمال 7: 48).
 
     بهذا الخطاب يعلن استفانوس ويشهد لإله كوني لكل الكون لا يمكن حصره في نطاق مكان ضيق ولا يمكن ربطه ببقعة جغرافية واحدة دون غيرها، كما يعلن ويشهد أيضاً عن إله كوني لكل البشر لا يختص بشعب معين ولا يرتبط بفئة بشرية دون غيرها على أساس عرقي أو عشائري.
وبذلك تكون قضية استفانوس التي فهمها من خلال إيمانه بالرب يسوع المسيح وتبناها في حياته وشهد لها في كل يوم واستشهد من أجلها هي أن الله هو إله كل الخليقة وليس إله جماعة معينة دون غيرها بل يمتد ويدعو كل الأمم وكل الشعوب لتقبل إليه وترى خلاصه، هو إله كل الأرض وليس إله منطقة جغرافية محددة دون غيرها ولا يمكن حصر عمله في حيز مكاني ضيق لأن المسكونة بأسرها له، هي وكل الساكنين فيها (مزمور 24: 1).
إن هذه الشهادة عن إله لا يسكن بهياكل مصنوعة بالأيادي، ولا يرتبط بمدينة أو مبنى، ولا يختص بشعب دون آخر، كانت مرفوضة من قبل رؤساء الكهنة والشعب اليهود لأنهم كانوا يؤمنون بإله حصري لهم ومحدود في نطاق الهيكل ومدينة أورشليم، ومن أجل ذلك وجهوا لاستفانوس تهمة التجديف ضد الموضع المقدس أي الهيكل إذ يقول أن الله لا يحد فيه، وتهمة التجديف ضد الناموس إذ يقول أن دعوة الله ليست محصورة في شعب واحد، وتهمة نقض عوائد موسى وعلى رأسها الختان كعلامة مميزة لشعب دون آخر (أعمال 6: 13-14)
لكن استفانوس بخطابه الأخير يدافع عن نفسه، ويرفض المساومة على قضيته – قضية الله الكوني اللامحدود- ويثبت من قلب العهد القديم ومن قلب الناموسخطأ ادعاءات اليهود وحديثهم عن إله حصري ومحدود، فمن قلب العهد القديم يدعو اللهُ ابراهيمَ خارج أرض كنعان، ومن قلب العهد القديم كان الله مع يوسف في مصر، ومن قلب العهد القديم ظهر الله لموسى في أرض مديان، ومن قلب العهد القديم لا يمكن لله أن يسكن في هيكل مصنوع بالأيادي. وبناء على ذلك يقلب استفانوس الطاولة على خصومه ويرد التهم الموجهة إليه حين يختم خطابه بالقول: “أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه” (أعمال 7: 53)، وكأنه يقول لخصومه أنهم هم -وليس هو- من يجدفون على الناموس حين لا يعترفون بإله كوني لكل الخليقة ولكل البشر.
 
     شهادة استفانوس واستشهاده تحمل فكرة هامة جداً لكل واحد منا اليوم، فالله هو إله كوني ولا يمكن حصره بمكان معين، ولا بفئة معينة.
الله أعظم من أن يحد بطرائق تفكير بشرية أو نظم عقائدية أو قوانين إيمان وضعية.
الله أعظم من أن يحد بكنيسة واحدة أو طائفة واحدة أو تقليد واحد أو طقس واحد.
الله أعظم من أن نرسم حدود لعمله وأكبر من كل توقعاتنا عنه.
     شهادة استفانوس واستشهاده هي دعوة لكل واحد منا اليوم لكي نشهد عن هذا الإله الكوني من خلال تصرفاتنا وأفكارنا وأعمالنا، فنحتضن الجميع ونقبل الجميع ونكسر الحواجز العرقية والاجتماعية والطبقية مع كل من حولنا، ونفتح أبوابنا ليدخل الجميع وننطلق من أبوابنا نحو الجميع عالمين أنه بالمسيح يسوع “ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأننا جميعاً واحد في المسيح يسوع” (غلاطية 3: 28)
 

اترك تعليقاً