“لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ”: بحث وتدقيق – الدكتور جوني عوّاد

Image

من مقالة للشيخ الدكتور جوني عوّاد بعنوان “خدمة المرأة في رسائل الرسول بولس”، نُشرت في كتاب “خدمة المرأة في الشرق الأوسط” الذي سبق وأصدره السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان.
1كو 14: 34-35
     النص الثاني الذي أود معالجته من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس (1كو14: 34-36) يرد في نهاية القسم المتعلق بإرشادات الرسول لأوقات العبادة (الاصحاحات 11-14) ، وبالتحديد في سياق نهاية كلامه عن الألسنة والتنبوء والترجمة من أجل البنيان (14: 26-40).
     في قراءة سريعة لأعداد هذا النص يتكون لدى القارئ المعاصر الانطباع بأن قول الرسول في الأعداد 34-35 يتناقض، ليس فقط مع حقيقة الإنجيل التي تحدثنا عنها بإسهاب في بداية هذا القسم، إنما أيضاً مع دور المرأة في الصلاة والتنبوء أوقات العبادة بحسب 1كو11: 2-16. كيف يمكن للرسول بولس أن يسمح للمرأة بالصلاة والتنبوء في أوقات العبادة، ومن ثم يطلب من المرأة الصمت في الكنيسة، وذلك ضمن الرسالة الواحدة والقسم ذاته من الرسالة المتعلق بإرشادات الرسول لأوقات العبادة؟ ترى هل يناقض الرسول ذاته؟
     بسبب هذا التناقض بين النصين، اعتبر بعض المفسرين أن النص الذي نحن بصدده (1كو 14: 34-35) لا يعبر إطلاقاً عن فكر الرسول، وأنه لم يكن بالأصل جزءاً من الرسالة، إنما تمت إضافته لاحقاً من قبل أحد النساخ استناداً إلى، وبوحي من، ما يقوله كاتب الرسالة الأولى إلى تيموثاوس في 2: 8-15. ويستخدم أتباع هذا المسار التفسيري مجموعة تبريرات، وهذه بعض منها:
–       إن دعوة النساء إلى الصمت في الكنيسة تظهر بشكل مفاجىء وغير متوقع ومن دون أي تمهيد لها. فإذا ما استثنيت الأعداد 34-35 من النص وجدنا أن ذلك يؤمن انسياباً أفضل لتوجيهات الرسول المتعلقة بالألسنة والتنبوء وغيرها.
–       إن لجوء الرسول إلى الشريعة بهدف الحسم في أمور تتعلق بالسلوك الانضباطي في الكنيسة أمر غير اعتيادي للرسول، وفهمه صعب.
–       إن وجود  دليل مخطوطي تظهر فيه الأعداد 34-35 بعد العدد 40 هو دليل على أن هذه الاعداد كانت متحركة، الأمر الذي يُرجح أنها كانت على هامش النص، وليس جزءاً منه.
     هناك صعوبة في تبني هذا المسار التفسيري، ذلك لأن الدليل المخطوطي لا يستثني هذه الأعداد، وبغض النظر عن مكان وجودها؛ وبالتالي فأي تفسير للنص يجب أن يأخذ هذه الأعداد على محمل الجدّ. وعليه، اجتهد المفسرون في أكثر من اتجاه وأكثر من مسار لفهم مقاصد الرسول من هذه الأعداد. منهم من اعتبر أنه من الضروري تفسير هذه الأعداد في ضوء التقاليد والقيم الحضارية السائدة آنذاك، حيث كان من غير المقبول، بل قبيح ومشين، على النساء، وبالأخص المتزوجات منهن، أن يدخلن في حديث مع رجال ليسوا بأزواجهن في الأماكن العامة. وكون العبادة كانت حدثاً علنياً يحضره، ليس فقط رجال مؤمنون، إنما أيضاً أناس عاميّون (1كو14: 23)، فإن أي أحاديث جانبية بين امراة ورجل ليس زوجها كان أمراً مرفوضاً اجتماعياً. وهذا ما كان الرسول يحاول وضع حد له، لأن ذلك يعطي انطباعاً سلبياً للغرباء عن رخاوة العلاقات الاجتماعية في الكنيسة، الأمر الذي قد يتسبب في خسارة اهتدائهم، أو قد يعتبر تمرداً على النظام الاجتماعي في الأمبراطورية، وبالتالي تهديداً لأمنها وسلامتها، الأمر الذي قد ينعكس سلباً على أمن وسلامة الكنيسة.
     هناك مسار تفسيري آخر يقوده بعض المفسرين النساء، ومن تأثر بهن من الرجال، الذين يعتبرون بأن الحيوية اللاهوتية التي تميزت بها كنيسة كورنثوس خلقت لدى مجموعة من النساء فيها إحساساً بالحرية التي لهن في المسيح. وبسبب هذه الحرية اعتبرن أن كل المؤمنين، رجالاً كانوا أم نساءً، هم عائلة واحدة مقدسة لا قيود فيها على الكلام أو المحاججة مع الرجال، حتى أولئك الذين ليسوا أزواجهن، حول ما يقال في التكلم بالألسنة والتنبوء والترجمة. وتذهب بعض الدراسات في هذا المسار التفسيري إلى القول إن ما كان يجري في كورنثوس هو أن بعض النساء النبيات كن حريصات على تمحيص الخطاب النبوي الذي كان أزواجهن، وغيرهم من الرجال، يقومون به. هذا الحرص في التمحيص تمثل في طرحهن للأسئلة على أزواجهن، أو استنطاقهم فيما يتنبأون. وحرصاً منه أن لا يكون ما يمليه الروح على الرجال من خطاب نبوي محط تساؤل أو تشكيك، فإن الرسول بولس يطلب من النساء أن يتوقفن فوراً عن الكلام، وأن يتركن أسئلتهن لأزواجهن إلى مكان آخر (البيت).
     هناك مسار تفسيري آخر، أجد نفسي شخصياً أقرب إليه في فهم وتفسير هذه الاعداد، يعتبر أن الرسول بولس براء من محتوى هذه الأعداد الإخضاعية للمرأة، نظراً لتناقضها مع حقيقة الإنجيل وسماح الرسول للمرأة في الصلاة والتنبؤ، وبالتالي، فإن الأعداد 34-35 هي اقتباس الرسول من الرسالة التي كتبها إليه الكورنثيين يقوم بالرد عليها في العدد 36.
     من المحتمل أن يكون بعض الكورنثيين قد اعتبروا أن حقيقة الإنجيل التي علمها الرسول، والمساوات بين المرأة والرجل في الرب، أُخذت في كنيسة كورنثوس إلى أماكن لم تعد مقبولة عندهم. ورغبة منهم في تحجيم دور المرأة من خلال إعادة إخضاع النساء لأزواجهن وإلى القيم الحضارية الذكورية للمجتمع، معتقدين أيضاً أن الشريعة تبرر ذلك، فإنهم يقترحون على الرسول تثبيت المعادلة التالية: “فلتصمت النساء في الكنائس … ليس مأذوناً لهن أن يتكلمن، بل يخضعن كما يقول الناموس… ان كن يردن أن يتعلمن شيئاً، فليسألن رجالهن في البيت، لأنه قبيح بالنساء أن يتكلمن في الكنيسة”.
     إن نظرية الاقتباس ليست غريبة عن الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. في أمكنة متعددة من الرسالة نجد الرسول يقتبس جملاً أو عبارات للرد عليها. ففي 6: 12 و 10: 23 يرد على مقولتهم “كل الأشياء تحل له…”؛ وفي 7: 1 نجد رده على مقولتهم  “فحسن للرجل أن لا يمسّ امرأة …”؛ وفي سياق معالجته لإشكالية ما ذبح للأوثان في الأصحاح 8 يرد على مجموعة مقولات منها: “فنعلم ان لجميعنا علما ] معرفة[  …”، و “نعلم أن ليس وثن في العالم وأن ليس إله آخر إلا واحداً…”
     إذاً، إزاء مقولة البعض من الكورنثيين إن على النساء أن يصمتن في الكنائس، يرد الرسول بولس في العدد 36 بعبارات الاستهجان والرفض، ويقول إلى من يطرحون معادلة صمت المرأة وإخضاعها: من منكم له الحق والقدرة على تكبيل إعلان ومواهب الروح؟ فإن أعطيت المرأة هذه المواهب من تنبؤ أو إعلان أو تكلم بالألسنة، فمن له الحق بإسكاتها؟ أتظنون أن لكم الملكية الحصرية على كلمة الله؟ أو أن كلمة الله خرجت بالأصل منكم، أو أنكم متلقّوها الحصريون؟ ويختم الرسول هذا المقطع من الرسالة بدعوة الكورنثيين، رجالاً كانوا أم نساء، ليجدّوا في التنبؤ، وأن لا يمنعوا التكلم بالألسنة، بل يكون كل شيء بلياقة وبحسب ترتيب (1كو 14: 39-40).
     من غير الممكن للرسول بولس أن يسمح للمرأة بالصلاة والتنبؤ أوقات العبادة في 1كو11: 2-16 ليعود بعد قليل في 14: 34-35 ويلجم خطابها في الكنيسة. من غير الممكن أن يؤكد الرسول على العلاقة الاعتمادية بين الجنسين والمساوات بين الرجل والمرأة في الرب وبحسب حقيقة الإنجيل في 1كو 11: 2-11 ليعود بعد قليل في 14: 34-35 إلى إخضاع المرأة للرجل. نظرية الاقتباس هي وحدها القادرة على تبرئة الرسول بولس من تهمة الوقوع في تناقض فكري ولاهوتي مع ذاته، وضمن الرسالة الواحدة والقسم الواحد من الرسالة. بناء على ذلك، فإن الرسول بولس يبقى الأكثر دفاعاً عن المرأة، وعن مكانتها، وعن دورها الريادي والقيادي في خدمة الكنيسة.

اترك تعليقاً