مــــَــــرْيَم ومـَـــــــــــــرْثا (سيلفي أفاكيان معمارباشي)

لوقا 10: 38-42
أيهما أفضل: الواجب، أم المحبة؟ أيهما أهم: العمل والإنتاج، أم تكريس الذات؛ الممارسات الدينية، أم الحضور الذاتي؛ الحياة العملية، أم الحياة التأملية؛ عمل الإنسان، أم كينونته وشخصه؛ النشاطات التي يقوم بها المرء، أم فكره وقلبه؟ من كانت على صواب: مرثا، أم مريم؟
تذكّرنا هذه القصة بأوقات احترنا فيها بين العمل والتأمل. قد نختار أحياناً الأعمال والنشاطات، وأحياناً أخرى نختار الجلوس والتفكر بشكل أعمق. ربّما ظلّ السؤال يرافقنا إلى الآن: أيهما نختار: الخدمة، أم القراءة والتأمل؟ فالخدمة جزء أساسي من الحياة المسيحية، وهي الثمار التي بها نُعرف من قبل الآخرين. كما أن الشجرة بلا ثمار لا فائدة منها، كذلك الحياة المسيحية من دون أعمال المحبة عاجزة عن إتمام رسالتها وإيصال شهادتها في هذه الحياة. ألا نقول عادةً إن الأعمال تُظهر حقيقة الإنسان وهويته؟ وكأن الأعمال تعكس، بقصدٍ أو بغير قصد، فكرَ الإنسان وباطنه!
نعم، الأعمال مهمة، وهي الثمار كما نقول. لكن أين الخطر عندما نركز فقط في أهمية الأعمال؟ أو ما هي مساوئ التركيز الكلي في الأعمال؟ نقرأ عن مرثا في الإنجيل أنها كانت “مرتبكة في خدمة كثيرة”. كلمة “مرتبكة” في الأصل اليوناني هي perispaw، وتعني أن ينهمك المرء بعمل ما وإتمامه لدرجةٍ تنسيه أهمية الظرف الذي وجد لأجله العمل نفسه. كأن الانهماك يسحب الإنسان من واقعه ويجعله يتقوقع ضمن إطار العمل  الذي يسعى إلى إتمامه. حالة الانغماس في العمل هذه تؤدي بالشخص إلى إهمال ما هو أهم من العمل ذاته؛ وبالتالي يترك أشياءَ أساسية ويتجاهلها لأجل إتمام عمله بنجاح. هذا يشبه إلى درجة كبيرة عمل الغني الغبي الذي نقرأ عنه في الأصحاح 12 من هذا الإنجيل على لسان يسوع. كان الغني منغمساً في عمله لدرجة أعاقته عن رؤية ما هو أبعد منه. لقد قرّر الغني أن يبني مخازن أعظم ليجمع فيها كلَّ غلاله. لكنه  كان غبياً، لأنه لم يرَ أبعد من نفسه، ليأكلَ ويشرب ويستريح.
لكن إذا أكملنا قراءة المقطع الإنجيلي، تستحوذ كلمة “خدمة” على انتباهنا. نقرأ عن مرثا أنها “كانت مرتبكة في خدمة كثيرة”. و”الخدمة” في الأصل اليوناني diakonia تعني العطاء، خدمة الله، أو تعني خدمة المائدة التي يقوم بها خادم المائدة (أو الراعي).
إذاً، عمل مرثا مهم. هو ليس عملاً أنانياً، لكن الارتباك يدفعها إلى الشكوى ليسوع. وارتباك مرثا هو سبب لوم يسوع لها. يجيب يسوع مرثا قائلاً: “مرثا، مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة”. إن كلمة “تهتمين”، أو “الاهتمام” merimnaw، هي نفسها الواردة في مت 6: 25 على لسان يسوع وهو يقول: “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون”. ثم يتابع، “انظروا إلى طيور السماء”؛ وأيضا يقول يسوع: “لماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو! لا تتعب ولا تغزل” (مت 6: 28).
كأن يسوع يريد أن يعلّم مرثا، أو التلاميذ، بأن هناك ما هو أبعد من اهتمامات الإنسان المباشرة في حياته اليومية. نعم، العمل مهم، والاجتهاد أساسي في الحياة، لكن الاهتمام لدرجة الارتباك والاضطراب بالعمل يمنعان المرء من أن يجلس بهدوء ويستمع إلى كلمة الرب كما فعلت مريم.
الارتباك والاضطراب يعوقان المرء ويمنعانه من أن ينظر إلى طيور السماء وإلى زنابق الحقل كيف تنمو. أي بكلمات أخرى، يمنعان المؤمن من أن يختبر عناية الله الحقيقية له في كل زمان ومكان. إنّ شعور الإنسان بوجود الله، وإدراكَه لعنايته، هما تماماً عكس إحساسه بالارتباك والاضطراب. بهذا المعنى يمكن وصف الإيمان المسيحي بأنه: “الشعور بالثقة المطلقة” (والتعبير للاهوتي شلايرماخر). فأن يشعر المرء بالثقة المطلقة، وأن يكون مدركاً لعلاقته مع الله، هما شيءٌ واحد.
إذا كانت لي علاقة محبة مع الله فهذا يؤدي إلى شعوري بالثقة نحوه. أما الشعور بالثقة المطلقة فيجمع بين عنصرين، أحدهما غير فعّال (passive)، أي أن يكون المرء معتمداً كلياً على الله، وهذه هي حالة الجلوس والتأمل التي تساءلنا عنها في البداية، وهي تصف تماماً حالة مريم، إذ نقرأ: “جلست عند قدمي يسوع، وكانت تسمع كلامَه”. والعنصر الثاني هو عنصر فعّال (active)، وبه يقوم الإنسان بأعمال الخدمة ويكون نشيطاً وفعّالاً من أجل سلامة حياته وحياة مجتمعه، وهذا يصف حالة مرثا وهي تخدم الرب.
لكن أحبائي، على الخدمة أن تكون بلا ارتباك، بلا اضطراب، بلا أنانية، بلا خوف، بلا انزعاج، وبلا شكوى. العمل الصالح والخدمة الصالحة هما من الرب الذي نتعلم منه كيف نخدم بعضنا بعضاً بتواضع كبير وبمحبة كاملة.
التباين إذاً، إخوتي وأخواتي، ليس بين العمل والتأمّل، كما تساءلنا في البداية. العمل والتأمل هما وجهان لحقيقةٍ إيمانيةٍ واحدة. التباين هو بين الخدمة الـمُحِبّة والخدمة المرتبكة المضطربة، بين الثقة وعدم الثقة، بين سلامٍ داخلي واضطرابٍ باطنيٍ كبير لا يسمح للمرء بأن يكون هادئاً، وكأنه ينتشل منه سلامه ويتركه معرضاً لأمواج الحياة دون صخرةٍ يلجأ إليها.
العمل والتأمل هما عنصران أساسيان لشعورنا بالثقة المطلقة نحو الله، أي لإدراكنا لعلاقة المحبة التي تربطنا به. بالتأمل نصغي إلى صوت الله، نستمع إلى كلمته ونقبلها في حياتنا كي نقترب بها منه فنتشبّه به، وننمو كي نكون على صورته التي خلقنا عليها. وبالعمل والخدمة نسعى إلى تحقيق هذه الصورة، صورة الإنسان المحب والمعطي والخادم لجاره الإنسان.

One thought on “مــــَــــرْيَم ومـَـــــــــــــرْثا (سيلفي أفاكيان معمارباشي)”

اترك تعليقاً