النصّ الكِتابي: لوقا 9: 1 – 9
إذا عُدنا للماضي، وتحديدًا أيّام الرّب يسوع في فلسطين، سنرى بأنّه لطالما كان الابن يأخذ صنعة أبيه. فلا يوجد احتمالات وخيارات للابن مثل اليوم، إذ يختار الاختصاص الذي يريد في الجامعة التي يُفضّل. فأغلب الأحيان كان الابن يعمل مع أبيه حتّى يرث عنه الصنعة. فترى النجّار ابن النجّار، الخبّاز ابن الخبّاز… الخ
في نصّنا لليوم من الكِتاب المُقدّس نرى المسيح مُهتمّ بتلاميذه كما لو كانوا أبناءه. فأعطاهم السلطان والقوة ليطردوا الشياطين ويشفوا المرضى، الأمر الذي كان يفعله المسيح حينها. قد نسأل لماذا إعطاء السلطان الآن وليس قبل؟ والجواب المنطقي هو لأنّه في نفس الإصحاح يبدأ رحلته نحو أورشليم، أي أنّ ساعته اقتربت ليعود إلى الآب.
وفِعلًا أعطى المسيح تلاميذه القوة والسلطان وتركهم يجولون القرى ليبشّروا ويشفوا. والنص يخبرنا بأنّهم نجحوا في مهمّتهم، وذلك لأنّ هيرودس سمِع بذلك وارتبك، فسأل عن هويّة يسوع!
لكن للأسف، لم تكتمل فرحة التلاميذ، ولا فرحة يسوع الذي غضب على تلاميذه وانتهرهم قائلًا: “أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟” (ع. 9: 41).
ماذا حدث؟ لماذا غضب الربّ؟ في الآيات 37-49، يُخبرنا النصّ بأنّ رجلًا جاء للمسيح طالبًا المُساعدة، فابنه يسقط على الأرض بعد أن يصرخ مصابًا بنوبة صرع بسبب روح نجسة. ويقول الرجل للمسيح بأنّه طلب من تلاميذه المساعدة، وهم لم يقدروا. أي أنّ التلاميذ أرادوا المساعدة، إنّما كلّ محاولاتهم باءت بالشفل. فما كان مِنَ المسيح إلّا وانتهرهم غاضبًا من ضعف إيمانهم!
لماذا التلاميذ الذين طردوا أرواحًا البارحة، فشلوا اليوم؟! السرّ موجود أيضًا في نفس الإصحاح، وهنا مُلخّص سريع عمّا حدث حينها:
بعد أن عاد التلاميذ من رحلتهم في القُرى (مبشرين وشافيين الناس)، أخذهم المسيح لبيت صيدا. عرفت الجموع وتبعته، فعلّمهم المسيح وشفى منهم، وأخيرًا أطعمهم وصرفهم.
بعد أن انصرفوا، وأنهى المسيح صلاته، سأل تلاميذه: “مَنْ تَقُولُ الْجُمُوعُ أَنِّي أَنَا؟”، فقالوا له إيليّا، يوحنّا المعمدان، وأحد الأنبياء القدماء. فسألهم المسيح مُجدّدًا “وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ أَنِّي أَنَا؟” فقالوا له “مَسِيحُ اللهِ!”…
إلى هنا القصّة جميلة ولا يوجد مشاكل، تلاميذ تعرف هويّة يسوع وتبشّر وتشفي…
أمّا الآن فَنُقْطة الفصل! انتهرهم وأوصاهم ألّا يقولوا لأحد، لأنّه سيتألّم ويُرفض ويُقتل ويقوم، وبأنّ الذي يريد أن يأتي وراءه عليه أن يحمل صليبه ويتبعه… هنا تغيّر كلّ شيءٍ، فمن بعد هذه الحادثة، فقد التلاميذ القوّة والسلطان!
والظاهر أنّه قد خاب ظنّهم بالمسيح وقوّته! في الآيات 51-56، حين تمّت الأيّام لارتفاع المسيح، ثبّت وجهه لينطلق إلى أورشليم، وأرسل رسلًا أمامه ليُعدّوا له. عندما دخلوا قرية للسامريين تفاجؤوا برفض القرية لهم وليسوع. فما كان من يعقوب ويوحنّا إلّا وأن سألوا المسيح من أجل أن تنزل نار من السماء لتفنيهم، كما فعل إيليّا!
منذ قليل، قالوا ليسوع أنّه مسيح الله، هذا يعني أنّه أعظم مِنْ إيليّا ويوحنا والأنبياء… أمّا عندما دخلوا المرحلة الصعبة، وقت التحدّي، وقت حمل الصليب، هم طلبوا “إيليّا”! نحن لا نريد مسيحًا يموت من أجل خطاة، ففي وقت التحدّي والمواجهة، نريد نبيًّا كإيليّا يُنزل نارًا حارقةً وفي يده سيف قاطع…
في الأوقات العاديّة، نريد تعاليم المسيح وقوّته، فنشفي ونُبشّر. لكن عند المواجهة، عندما يُداس لنا على طرف، نريد إيليّا! في الأوقات التي قَبِلَتْهُم القُرى شفوا وعلّموا، لكن عندما طردتهم قرية واحدة، أرادوا إحراقها. مع أنّ المسيح أخبرهم سابقًا بأنّه إنْ طردتهم قرية عليهم نفض غبار أرجلهم وتركها…
لا نريد! لا نريد أن نظهر كضعفاء، سنواجه ونردّ الصّاع صاعَيْن… لكن المُفاجأة هي عندما نعود لرُشدنا، للأيّام العاديّة، ونرى بأنّنا خسرنا “المسيح” ولم نستفد من “إيليّا”… فالنار أحرقتنا معهم، والسيف قطع أعناقنا مع أعناقهم، أمّا قوّة الشفاء والسلطان فقد خسرناها بعدما خسرنا إيماننا – عندما خسرنا “المسيح”.
الجمعة في 15 آذار 2019، تفاجأنا صباحًا بخبر الجريمة التي هزّت العالم، شابّ أستراليّ مِنْ أصلٍ أوروبيّ، قام بتنفيذ خطّته التي عمل عليها لمدّة سنتان، وهي بقتل العدد الأكبر من المُسلمين المُصلّين داخل مساجدهم. سواءً كان هذا الشابّ مسيحيًّا أم لا، لا بُدّ أن نقف عند جوابه عن سبب قيامه بذلك. فقد فعل كلّ ذلك لأنه خاف على عرقه وبلاده مِنَ المُسلمين المُهاجرين، الذين يتكاثرون بشكل كبير.
لقد قرأت الكثير من التعليقات، وتفاجأت بأنّ بعضها يقول “يستحقّون ذلك، فَهُم مَنْ بدأوا بِحَرْق الكنائس”، وبأنّ “مقابل كل كنيسة مسجد”! هذا العمل حمّس بعض المسيحيّين في العالم، فبعد يوم واحد، هاجم شُبّان واعتدوا على مُسْلِمِين في بريطانيا!
يا أحبّة، حَذارِ أن نخسر المسيح! فلا شيء سيعوّض خسارة إيماننا. لا يمكننا أخذ ما نريد من المسيح، وترك ما لا نُريد. أي أنّنا نريد قوّة الشفاء، لكن ليس المحبّة المُضحّية، ليس الصليب والآلام. فإيماننا بالمسيح لا يتجزّأ، إمّا أن نأخذ المسيح كما هو، بصليبه قبل قيامته، أو نخسر كلّ شيء. ليس كلّ من قال أنا مسيحيّ أصبح مسيحيًّا، فالذي يحمل المسيح فِعلًا، لا يفيض منه إلّا المحبّة، كيف لا والمسيح نفسه محبّة…
أشارككم أخيرًا هذه القصّة بعنوان: “تقييم ذاتيّ”، لعلّنا نعيد تقييم حياتنا خلال فصل الصوم…
في يوم من الأيّام، في وسط مدينة من المدن، كان هناك قهوة صغيرة، يجلس الناس فيها صباحًا للتحدّث وارتشاف القهوة. ما هي إلّا لحظات ويدخل فتًى صغيرًا المحل محاولًا استخدام الهاتف العام المُعلّق أمام الباب. وعندما لم يستطع الوصول اليه، ذهب وأحضر صندوقًا خشبيًّا، ووقف عليه ومدّ يده ليطال الهاتف. كلّ هذه المحاولات، زادت من فضول الناس لمعرفة الموضوع المهمّ الذي مِنْ أجله يعاني الفتى كل ذلك. طلب الشاب الأرقام ورنّ الهاتف بصوت مسموع لصاحب المحلّ الواقف بقربه. ردّت امرأة عليه، فسألها الشاب عن عمل شاغر كانوا قد أعلنوا عنه منذ شهر، وأضاف: “سيّدتي: أيمكنني العمل لديك في تهذيب عشب حديقتك؟”، أجابت السيّدة: “لديّ من يقوم بهذا العمل”. قال الفتى: “سأقوم بالعمل بنصف الأجرة التي يأخذها هذا الشّخص”، أجابت السّيدة بأنّها راضيةً بعمل ذلك الشّخص ولا تريد استبداله. أصبح الفتى أكثر إلحاحًا، وقال: “سأنظّف أيضاً ممرّ المُشاة، والرّصيف أمام منزلك، وستكون حديقتك أجمل حديقة في المدينة”، ومرّةً أخرى أجابته السّيدة بالنّفي، تبسّم الفتى وأقفل الهاتف. تقدّم صاحب المحل، والذي كان يستمع إلى المحادثة، مِنَ الفتى وقال له: “لقد أعجبتني همّتك العالية، وأحترم هذه المعنويّات الإيجابيّة فيك، وأعرض عليك فرصةً للعمل لديّ في المحل”، فأجاب الفتى الصّغير:” لا، وشكرًا لعرضك، فإنّي كنت فقط أتأكّد من أدائي للعمل الذي أقوم به حاليًّا، إنّني أعمل لدى هذه السّيدة التي كنت أتحدث إليها!”