في هذا الأحد الرابع والعشرين بعد عيد الثالوث الأقدس، ومن خلال إنجيل متى البشير في الأصحاح التاسع، والأعداد الثامن عشر وحتى السادس والعشرين (مت 9: 18-26) نرى عجزَ القدراتِ البشرية مهمَا عَلَتْ وتَجبّرَت وعظُمَتْ وقويَتْ وسَطَتْ واحتلَّتْ أعلى المراكز والمناصبِ أمامَ عدوِ الموت الذي يُفجع القلوبَ ويُحزِنُها ويكسِرُها، لأنّ الموت يفقدنا أغلى وأعّز الناس على قلوبنا، وخصوصاً إن كانوا فلذات قلوبنا.
هذا ما اختبره رئيسٌ لم يُذكَر اسمه، صاحب منصب هام، وصاحب جاهٍ كبير، جاء إلى السيد المسيح وجثا على ركبتيه بسبب فاجعة وفاة ابنته. فأمام قوة الموت لا يوجد هناك لا كبير ولا صغير، لا رئيس ومرؤوس، لا غني ولا فقير، لا قوي ولا ضعيف، بل أمامَ سطوةِ الموت تنحني كلُّ الرُكَبِ وتُحِيْلُ بنظرها إلى من بيده سلطانُ الحياة والموت.
ورغم أن هذا الرئيس كان يتحلى بكلِّ ذلكَ النفوذِ وتلك الهالة المجتمعية والصلاحيات الواسعة، إلا أنَّها كلَّها إنهارت أمام حادثة الموت، فجميعها لا تنفع شيئاً. لذلك أتى ذلك الرئيس إلى محضرِ السيد المسيح الذي بيده سلطان الحياة والموت، فجثا عند ركبتيه، متجرداً من كل ما يحيط به من قوة وعظمة ونفوذ، فأمام الموت يسقطُ كلُّ شيء.
لقد ملأ قلبُ هذا الرجل إيماناً فريداً بقدرة المسيح على سلطان الموت الذي اختطف منه فلذة كبده وبهجة قلبه وفرحة حياته، فأتى جاثياً على قدميه أمام المسيح طالباً منه أن يضعَ يده على إبنته المائته فتحيا.
ربما يذَّكِرنا هذا الموقف بحاجَة مجتمعاتنا إلى يد الله القادرة أن تمنح عالمنا الحياة وتقيمنا من موت الخطيئة وتبعاتها في إفتعال كل الشرور والقتل والدمار والفظائع.
ما نراه من حولنا اليوم هو رائحة الموت والحرب والخراب والدمار وإنتهاك حقوق الإنسان والمواثيق الدولية بحق الإنسان في الحياة والكرامة الإنسانية وتوفير الأمن والحماية له. فما ينتشرُ من حولنا هو الخراب والدمار ودخان الصواريخ والقذائف والأسلحة الفتاكة والرُكام الذي تهشّمت تحتَها أجسادٌ بشرية غضّة وتقطَّعَت وسُحِقَت، وما نحتاج إليه حقاً هو اللجوء إلى الله تعالى ليمُّدَ يدَهُ ويلمسَ عالمَنَا بلسمةِ حياةٍ تجدِّدُ الأملَ والرجاءَ بمستقبلٍ أفضل، ونقول مع المرنم في المزمور الثمانين: ” يا إله الجنود ارجعنَّ اطّلع من السماء وانظر وتعهد هذه الكرمة، والغرس الذي غرسته يمينك والإبن الذي اخترته لنفسك”.
بلا أدنى شك هذا اللجوء للقدرة الإلهية يدعونا لأن نبحث من جانبنا عن كلِّ الطرق المتاحة لدينا لإنهاء أهوال الحروب والنزاعات والعمل على ترسيخ السلام القائم على الحق والمرتكز على العدل، فنرفعَ صوتنا النبوي ونقول، كفى للحرب، كفى للدمار، كفى لإنتهاك حرمة الحياة البشرية، كفى لإحتلال الشعوب وحرمانها في حقها في تقرير المصير، كفى لتشريد الناس وتجويعها وحرمانها من مقومات الحياة الكريمة، كفى لشلال الدماء الذي يسيل، نريد أن يحِّلَ محلَ رائحة الموت والخراب والدمار رائحةَ الحياة، وأن تنمو براعم الربيع لتزهر أوراقاً يانعة وثمراً جديداً.
فنصلِّي أن يحتكمَ البشرُ إلى موازين العدالة، وعملًا بنبوءة إشعياء أن “يطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل” ( إش 2: 4) ، فليس ثمّة عاقل يحّب الحرب والدمار بل العدل والسلام، فلا نريد أن نكون مثل هؤلاء المزمرين أو النائحين عند بيت ذلك الرئيس الذي أقام المسيح ابنته من الموت، نندب الحظ ونتجهم ونتجرد من السعي نحو البحث عما يؤدي إلى إستعادة نسمة الحياة.