الحنين للماضي! رزق الله … (القس ربيع طالب)

رزق الله على سنوات الماضي كم كانت جميلة! كانت سنوات البركة والمحبة… عادة ما نسمع هذه العبارة. فكلّنا نحنّ للماضي وذكرياته. كانت ألعابنا القديمة غير ألعاب الموبايل، فكُنّا نجتمع مع أولاد الحارة ونلعب معًا. كانت العائلة تجتمع كثيرًا، كان الجار يهتم بالجار كثيرًا… انظروا اليوم، كل شيء تغيّر، حتى المنازل شبه فارغة من أناس رقدوا فأغلقت أبواب منازلهم…
نشر الشاعر نزار فرنسيس بيت شعر على صفحته قال فيه: “ما عاد بدّي إحتفل بعياد – وبطّلت عم انطر سنين جداد – يا ريت إحضى بشي سنة مستعملة – من عمر عشنا فيه، كنا أولاد.”
أتعلمون؟ حتى في الكتاب المقدّس حنين للماضي. مثل:
1. في سفر الخروج، الإصحاح 16، بعد أن أخرج الربّ الشعب من أرض العبودية في مصر، ونحن ندرك كل الأحداث الكبيرة التي حصلت تمهيدًا للخروج، إذ بالشعب يتوه في البرية القاحلة، فنظر الشعب لحاضرهم، وتحسّروا على ماضيهم، فقالوا في الآية 3: “لَيْتَنَا مُتْنَا بِيَدِ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مِصْرَ، إِذْ كُنَّا جَالِسِينَ عِنْدَ قُدُورِ اللَّحْمِ نَأْكُلُ خُبْزًا لِلشَّبَعِ. فَإِنَّكُمَا أَخْرَجْتُمَانَا إِلَى هذَا الْقَفْرِ لِكَيْ تُمِيتَا كُلَّ هذَا الْجُمْهُورِ بِالْجُوعِ.”
يعني يا ليتنا بقينا في الماضي، كنا نأكل ونشبع عند قدور اللحم ونشبع. فتحوّل حلم الشعب الطامح للحرية، أن يعود للماضي ويعيشه!
عند كلّ موقف ألم، في قلب كل أزمة نعيشها، تعود الينا هذه الأفكار بقوة: “رزق الله على أيّام زمان”…
لكن الذي لا نتنبّه له ونحن نحنّ للماضي، بأنّنا لا نتذكّر كلّ الماضي، إنّما نختار الذكريات الجميلة منه، التي نريد نحن أن نتذكّرها. لذا تروننا دائمًا ننظر للماضي وكأنه أجمل، وكأنّ العالم يسقط سريعًا بين السنة والأخرى.
يتذكّر الشعب كيف كان يأكل ويشبع، ومنظر قدور اللحم أمام عينيه. لكن لا يتذكّر العبوديّة والظلم الذي عاشوه، كلّ اللحظات القاسية من عبودية وتعب وتمييز عنصري، لا يتذكّروه. نعم، لقد بكينا في هذا الماضي الجميل، وتألّمنا، وكرهنا أيامنا والوقت الذي وُلدنا فيه… كما نفعل اليوم.  فلكل زمن اختباراته الجميلة والصعبة أيضًا.
مع انتهاء عام وبداية عام جديد، كلنا ننتقل من حنين الماضي لرجاء المستقبل. الكل يتشوق لمعرفة ما ستحمله السنة الجديدة. فرغم كل الصعوبات وقلّة الحظوظ عمليًا، لكن يبقى لدينا رجاء خاص في هذا الوقت، لعلّى العام الجديد يجلب معه أمرًا جديدًا، راحة بال وسلام…
يُحكى عن ملك كان عائدًا لقصره في إحدى الليالي الباردة، فرأى أحد حرّاسه كبيرًا في العمر، وظاهر عليه آثار البرد والصقيع، فجاء إليه وقال: لماذا لا تلبس ملابس أكثر؟ ألست بردانًا؟ فأخبره الحارس أنّه بردان جدًا لكنّه تعوّد على ظروف حياته، وليس لديه ثياب صوف ليلبسها. فدقّ الملك على صدره وقال أنا سأرسل لك ملابس دافئة جديدة لك، وحذاء فيه صوف في الداخل، وسأخبر الخادم أن يصنع لك كوب شاي دافئ.
ما أن وعد الملك الحارس، حتى دخل قصره وكانت الملكة بانتظاره، فاستفسرت منه عن بعض الأمور. وما كان من الملك إلّا ونسي وعوده للحارس. قام في اليوم الثاني، ليخبره الخدم أنّهم وجدوا الحارس ميتًا من البرد في الخارج، وأنّهم وجدوا ورقة صغيرة بيده. فأخذ الملك الورقة، وقرأ: “جلالة الملك، لطالما تحمّلت البرد والصقيع، وكنت بنفس الظروف ونفس الملابس، لكن بعد أن وعدتني جلالتك بالدفء ولم تحقّق الوعد، لا أعرف كيف دخل الصقيع قلبي، إنّها المرّة الأولى التي أبرد لهذه الدرجة…”
بعد عبور الشعب البحر، كانوا قد رسموا المستقبل الباهر أمامهم ووعدوا أنفسهم بحياة هنيئة. لكن الحقيقة أنّ المستقبل حمل لهم ضياع في البرية لمدة 40 سنة، حتى أنهم ندموا أنهم خرجوا من مصر وقالوا الآية التي قرأناها: ” لَيْتَنَا مُتْنَا بِيَدِ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مِصْرَ، إِذْ كُنَّا جَالِسِينَ عِنْدَ قُدُورِ اللَّحْمِ نَأْكُلُ خُبْزًا لِلشَّبَعِ. فَإِنَّكُمَا أَخْرَجْتُمَانَا إِلَى هذَا الْقَفْرِ لِكَيْ تُمِيتَا كُلَّ هذَا الْجُمْهُورِ بِالْجُوعِ”.
إنّنا سجناء في حلقة مغلقة، نتوقع ونرجو أن تحصل الأمور الجميلة، لكن المستقبل يحمل تحديات لنا أيضًا، فنتألم ونحنّ للماضي ونحن نتذكّر أجمل ما حمل من ذكريات… وهكذا تستمرّ الأمور، فلا نعيش الرضى.
مع بداية سنة 2024، مع أني أتمنى لجميعنا الخير، لكنني لا أنكر أنها ستحمل الصعوبات والتحديات أيضًا، لكن الدعوة هي أن نكتشف كمؤمنين البركات ونلاحظ الأوقات الجميلة التي يُنعم بها الله علينا ونحن في الحاضر. لأنّ في كل وقت مهما كانت تحدياته كبيرة يوجد الكثير من البركات والأمور الجميلة. فدعوتنا هي أن نستمتع بقدور اللحم ونحن في مصر، ولا نكتشف قيمتها ونحن في البرية، دعوتنا هي أن نفرح بطفولتنا ونحن أطفال، ليس عندما نكبر نحنّ لها، أن نفرح بالمدرسة ونحن طلاب فيها، ليس بعدما نتخرّج منها. أن نفرح مع أحبائنا ونحن معهم، ليس بعدما يفارقونا…
في خدمتي السابقة في بيت المسنين هملين في حمانا، كنت أتعرف على الكثير من المسنين. وكُنّا نجري خدمة العبادة صباح كلّ يوم، من الاثنين حتّى الخميس. في وقت من الأوقات، جاءت امرأة مسنّة لكنها قوية الجسد وسهلة الحركة، نظرتُ اليها ودقّقتُ في ثيابها المرتّبة وألوانها الفرحة، والشال على كتفها. حضرت الخدمة بعيون وآذان ترى وتُصغي لكل كلمة تُقال. وبعد الخدمة في وقت الشركة، ونحن نشرب القهوة، سألتني أن أجلس بجانبها، فجلست، سألتني “ما السبب الذي دفع يوحنا المعمدان ليرسل تلاميذه للمسيح؟ ولماذا ردّ المسيح عليهم بهذه الطريقة؟”، سؤالها اللاهوتي وحوارها معي كانا عميقان جدًا، فنسيت لبرهة أنني في بيت مسنين وأتحدث مع مسنة.
حيّرتني همّتها ونشاطها وعقلها، قلت في نفسي، لعلّها ليست مسنة كثيرًا، في أوّل السبعينات. فسألت، وكان الجواب 95 سنة! كانت صدمة حياتي…
وفي مرة قالوا لي أنّ سلوى وقعت، وكانت الضربة قويّة على الرأس، ذهبت مسرعًا اليها، محضّرًا بعض كلمات التشجيع. دخلت فوجدتها في الفراش، وجه منتفخ وبنفسجي اللون! منظر محزن جدًا، أكاد أشعر بألمها عن بُعد. جلست بجانبها، وتفاجأت… كانت مبتسمة وتتحدث وتضحك، كلها فرح وحياة. وأنا أقول في نفسي، ألم ترى نفسها في المرآة، ألا تعرف وضعها؟ فسألتها غريب أن أراك تضحكين في ظلّ هذا الوضع، فقالت لي: “قسيس، أنا حالفة يمين، كل شي وأنا مع الله، ما في شي بركعني!”
هذه هي دعوتنا اليوم ونحن نبدأ عام 2024 “كل شي ونحنا مع الله، ما في شي بركعنا”… لأننا نرى البركات التي تفيض علينا، حتى في وقت الألم والتحديات… فكما تقول كلمات الترنيمة “إن جود الله يدعو للسرور، زمن الخير وفي وقت الشرور، متى أمست رحى البلوى تدور… بركات الرب عدّد شاكرًا”… آمين

القس ربيع طالب

رئيس تحرير النشرة، أمين سر لجنة الإعلام والنشرة في السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان، وراعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية في علما الشعب

اترك تعليقاً