هل يقودنا الروح القدس إلى التجربة والفشل أم يحمينا منهما؟ (القس د. هادي غنطوس)

تبدأ الأناجيل الأربعة، التي يضمّها العهد الجديد من كتابنا المقدس، قصّتها لحياة وإرسالية وصليب وقيامة يسوع المسيح بطرق مختلفة. فقصّة ظهور يوحنا المعمدان ومعمودية يسوع على يديه تمثّل نقطة اللقاء الأولى بين الأناجيل الأربعة (مت 3: 1-17؛ مر 1: 2-11؛ لو 3: 1-22؛ يو 1: 19-34)، وتضع الأرضيّة لانطلاق يسوع في إرساليته، والتي ستقوم الأناجيل الأربعة بتقديمها بقصص وأساليب متنوعة.
تُعلن الأناجيل الإيزائية الثلاثة (مرقس، متى، ولوقا) بأنّ القصة الأولى التي تلي معمودية يسوع على يد يوحنا، وما يرافقها من ظهور لألوهية يسوع وهويته كابن لله من خلال حلول الروح القدس عليه بهيئة حمامة وصوت الآب السماوي الذي يعلن بنوة يسوع له، هي تعرض يسوع للتجربة في البرية. في حين تغيب أيّة إشارة إلى التجربة في البرية في إنجيل يوحنا، الذي ينتقل مباشرة إلى دعوة التلاميذ الأوّلين (يو 1: 35-51).
ولكن هنا يحصل اختلاف مثير للانتباه بين الأناجيل الإيزائية الثلاثة. فمرقس ومتى يشيران إلى انطلاق يسوع في إرساليته في الجليل ودعوته للتلاميذ الأولين، في حين يقدم لوقا قصة متميّزة وفريدة لرفض يسوع في بلدته الأم، الناصرة، بعد دخوله إلى المجمع فيها وتلخيصه لإرساليته هناك، بعد إشارة مقتضبة لتحقيقه لنجاح كبير وسريع في الجليل (لو 4: 15-30).
قصتا تجربة يسوع ورفضه في الناصرة في إنجيل لوقا ترتبطان ارتباطًا مباشرًا وعميقًا بقصة معمودية يسوع التي تسبقهما مع ما تضمّن من حلول للروح القدس وإعلان بنوّة يسوع لله، وتحملان رسالة لاهوتية مهمّة فيما يتعلق بإرسالية يسوع من جهة، وبالنسبة لنا كتلاميذ ليسوع المسيح اليوم.
فيسوع يرجع “من الأردن ممتلئًا من الروح القدس” الذي يقوده في البرية (لو 4: 1)، ويرجع من البرية “بقوة الروح إلى الجليل” (آ14). الروح القدس الذي حلّ على يسوع في المعمودية هو من يقوده في كِلَا القصّتين، من المعمودية إلى التجربة، ومن التجربة إلى الرفض في الناصرة بعد النجاح السريع في الجليل. والروح القدس نفسه هو الذي يُعلن يسوع أنّه حلّ عليه في تلخيصه لإرساليته، وفي اقتباسه لسفر إشعياء النبي في المجمع (آ 16-21؛ إش 61: 1-3).
وإذا كان من المفهوم أن يكون حلول الروح القدس على يسوع هو شرارة انطلاق إرساليته، كما يُعلن يسوع نفسه، وأن يقود الروح القدس يسوع إلى نجاح كبير وسريع في بداية إرساليته، فكيف نفهم أن يكون الروح القدس هو من يقود يسوع إلى التجربة والرفض؟ ألا يفترض بالروح القدس أن يحمينا من التجربة وأن يضمن لنا النجاح؟ فكيف يُعلن لوقا أنّ ذلك الروح نفسه هو من يقود يسوع إلى التجربة وإلى الرفض والفشل؟ ولماذا يجعل لوقا من تلك التجربة وذلك الرفض والفشل، بقيادة الروح القدس الذي حلّ على يسوع في المعمودية، البداية الحقيقية لإرسالية يسوع المسيح، “ابن الله الحبيب، الذي به قد سر الآب” (لو 3: 12)؟
لا بل إن بنوّة يسوع لله الآب هي النقطة الأخرى التي تربط بين المعمودية وتجربة يسوع ورفضه في الناصرة في إنجيل لوقا. فإبليس في تجربته ليسوع يركز على نقطة أساسيّة، وهي بنوة يسوع لله، “إن كنت ابن الله…” (4: 3، 9). وأهل الناصرة في رفضهم ليسوع بعد إعلانه لحلول روح الله عليه يركزون على أنه “ابن يوسف” (آ22) لا أكثر…
وبالتالي، فحلول الروح القدس على يسوع وإعلان بنوّته لله في المعمودية هُما العاملان الرئيسان في تعرّض يسوع للتجربة في البرية وفي رفض يسوع في الناصرة. وبذلك يريد إنجيل لوقا أن يُعلن حقيقة مهمّة جدًّا، وهي: ما الذي يعنيه حلول الروح القدس على يسوع وإعلان بنوته لله بالنسبة ليسوع ولإرساليته؟ وما الذي سيفعله يسوع أمام ذلك الظهور الإلهي العظيم؟
إنّ تجربة يسوع، بقيادة الروح القدس نفسه، وبأسئلة ترتبط مباشرة بكونه “ابن الله” نفسه، تأتي لتضع يسوع أمام أسئلة أساسية في حياته وإرساليته. ما الذي سيفعله يسوع بحقيقة كونه ابن الله الحبيب؟ كيف سيترجم يسوع ذلك عمليًا؟ كيف سيستخدم يسوع قوّة الروح القدس الذي حلّ عليه؟ هل سيُسخّر ذلك لتحقيق رغباته وحاجاته ومصالحه هو، أم لإعطاء المجد لله وحده؟ هل سيتوقّع يسوع بأنّ الله مكرّس لحمايته وخدمته، أم أنه هو المكرّس لخدمة الله؟
تلك هي في العمق التجربة التي يتعرّض لها يسوع، والتي يتعرّض لها كل مؤمن. ما الذي يعنيه كوننا أبناء وبنات لله؟ ما الذي نتوقعه من الله؟ هل نتوقع الحماية وتحقيق رغباتنا وحاجاتنا ومصالحنا؟ هل نتوقّع أن يعطينا المجد؟ هل نتوقع أن يكون مكرسًا لخدمتنا؟ أليس ذلك ما نتوقعه في العمق؟ أم أنّنا ندرك بأنّ كوننا أبناء وبنات لله فهذا يعني أنّنا مدعوون لنلتزم بكلمته، وخدمته، وإعطاء المجد له وحده؟ تلك هي التجربة التي يختبرها يسوع، ويختبرها المؤمنون في كل زمان ومكان. يسوع ينجح في تجاوز نلك التجربة، فهل نسقط نحن فيها أم نجتازها معه وعلى مثاله؟
وهنا تأتي القصة الثانية لتضع كل شيء في نِصابه. فبعد نجاحه في تجاوز التجربة وفي تحقيق نجاح كبير وسريع في الجليل وحصوله على تمجيد الجميع وشهادتهم وإعجابهم بتعليمه والآيات العظيمة التي يصنع (آ14-15، 22-23) تأتي قصّة رفض يسوع في الناصرة لتُعيده إلى أرض الواقع. فحلول الروح القدس على يسوع وبنوّته لله لا يجب أن يكونا سببًا لتمجيده هو، ولكن “ليُبشّر المساكين، وليشفي المنكسري القلوب، ولينادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وليرسل المُنسحقين في الحرية، وليكرز بسنة الرب المقبولة” (آ18-19).
يسوع مدعو ليتذكر أنّ حلول الروح القدس عليه وبنوته لله ليسا وصفة للنجاح السريع وللحصول على المجد، لكنهما دعوة للانطلاق في إرسالية تُعلن محبة الله وحريته لكل المتألمين، مع كل ما يتضمنه ذلك من صعوبات وتحديات ورفض وفشل، لا بل وآلام وصليب وموت. يسوع مدعو ليختبر رفض أقرب الناس له، والسقوط من القمة سريعًا كما وصلها، والعودة إلى أرض الواقع. يسوع مدعو ليُدرك أنّ عليه أن “ينحدر” إلى كفرناحوم (آ31) ليبدأ من أسفل لا من أعلى، في إعلان الحرية والشفاء، وذلك هو أول ما يقوم به هناك بتحرير رجل به روح نجس (آ33-35) وشفاء حماة بطرس ومرضى آخرين كثيرين (آ35-41).
تلك هي الحقيقة العميقة التي تُعلنها قصة رفض يسوع في الناصرة لكل أتباع يسوع. تلك القصة تُعلن لنا أنّنا مدعوّون لندرك بأنّ كوننا أبناء وبنات لله نحمل روحه ونتمتع بمحبته و”سروره” لا يعني، ولا يجب أن يعني، نجاحًا سريعًا وكبيرًا. ولا يعني حصولنا على المجد والإعجاب والقبول والتهليل من الجميع. لكنه يعني أنّنا مدعوّون لحمل رسالة محبة الله وحريته لكل من وما حولنا، مع كل ما يعنيه ويتضمنه ويقتضيه ذلك من فشل ورفض حتى من أقرب الناس إلينا، وما قد يقودنا إليه ذلك من آلام وصليب في سبيل إعلان ملكوت الله لكل الخليقة.
إرسالية يسوع في إنجيل لوقا، وبعد حلول الروح القدس عليه وإعلان بنوّته لله في المعمودية تبدأ بتجربة وبرفض يرتبطان ارتباطان مباشرًا بذلك الروح وتلك البنوة، وتدعونا كتلاميذ ليسوع المسيح، كأبناء وبنات لله، وكهياكل لروحه القدوس، لندرك أننا مدعوّون لنكون مُكرّسين بالكامل لحمل رسالة ملكوت الله والالتزام بكلمته وخدمته وإعلان حريته لكل من وما حولنا، مع كل ما يقتضيه ذلك ويتضمنه من ألم ومعاناة ورفض وفشل، ولكن أيضًا نجاح، نعطي فيه المجد لله وحده. والمجد، كل المجد ليسوع المسيح.

القس د. هادي غنطوس

أمين سر لجنة الشؤون الكنسية والروحية

راعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية في منيارة - عكار

اترك تعليقاً