هَلْ هُنالِكَ خلاص خارج المسيح؟ – الواعظة ماتيلد صبّاغ

الواعظة ماتيلد صبّاغ

راعية الكنيسة الإنجيلية الوطنية في الحسكة

النص الكتابي: يوحنا 3: 1- 21

أَعْتَرِف أَنَّ هذا النص هو واحد من أصعب نصوص الأناجيل ؛ ففكرة الولادة من فوق أي من الماء والروح لطالما كانت سؤالاً نعود إليه مراراً وتكراراً في رحلة إيماننا المسيحي. فهذا النص هو نص مركزي لجميعنا حيث يلاقينا يسوع فيه ويحاورنا في قضية الحياة الأبدية. لذلك أَرْغَبُ في دعوتكم اليوم لنجول بين ثنايا هذا الحوار الذي يدور بين يسوع الإلَه كما هو في فكر البشير يوحنا وبين  نِيقُودِيمُوسُ  الْفَرِّيسي ومعلم إسرائيل. لذلك ولفهم أكثر عمقاً لهذا النص أقرأه من نهاية الاصحاح الثاني ع. 25 ” لأَنَّهُ  عَلِمَ ما كان في  الإِنْسان”.

وبطريقة  تقليدية جِدًّا أطرح أولاً السؤال: من هو  نِيقُودِيمُوسُ  هذا وذلك من الناحية الخارجية للنص؟ هو  إِنسان فَرِّيسي من الطبقة الحاكمة دينياً في المجتمع اليهودي وهو  إِنسان متمرس في اللاهوت كونه معلم شريعة في إسرائيل أي  أَنَّهُ  مُدرِك لكل نصوص العهد القديم (الكتاب المقدس عند اليهود). يأتي هذا المعلم إلى يسوع في الليل، وهنا دائماً تَكْثُرُ التساؤلات حول مجيئه للقاء يسوع عندما تَحُلُّ الظُّلْمَة. وهنالك عدة قراءات لهذا المجيء إما في كونه  إِنسان مشغول بأعماله خلال اليوم، أو  أَنَّهُ  لم يرد أحداً أن يراه قادما ليحاور يسوع هذا  الإِنْسان الذي تدور حوله الكثير من التخمينات والمباحثات (ويعتبر هذا التبرير الأكثر رواجاً في الكنيسة). أو  لأَنَّ  هذا تقليد يوحنا يظهر لنا الفارق بين أبناء النور وأبناء الظُّلْمَة، أو مثلما يقول التقليد اليهودي  بأَنَّ معلمي الشريعة كانوا يقومون بدراسة الكُتُب الْمُقَدَّسَة في الليل وبالتالي  فنِيقُودِيمُوسُ  هذا يأتي ليسوع كي يدرسه ويباحثه ويقلّب ثناياه. ولكن لا توجد إجابة واحدة تجاه هذا التساؤل لكنها تترك للقارئ وتفاعله مع النص الكتابي الْمُقَدَّس وأسلوبه الأدبي.

وبالتالي فما هو محوري في النص ليس المقدمة التي يسردها لنا البشير يوحنا في بداية هذا الحوار الذي يُعَدُّ واحد من مجموعة من الحوارات الشخصية التي يجريها يسوع في هذا الانجيل، بل ما هو محوري عندما يأتي إلينا في كلمات  نِيقُودِيمُوسُ  في العدد 2. “نحن نعلم” أي نحن الْفَرِّيسِيِّينَ ، أو نحن السنهدريم بأنك مميز ولست بمعلم كاذب وذلك بسبب الآيات التي قمت بها. لقد كان لدى  نِيقُودِيمُوسُ  هذه المعرفة البشرية والتوكيد اللاهوتي  أَنَّ يسوع هو مُعلِّم مِثْلَهُ مِثْلَ  نِيقُودِيمُوسُ  وآخرين.  فنِيقُودِيمُوسُ  يرى يسوع من خلال الخبرة البشرية وقادر على الاعتراف بتميزه في التعليم وبالتالي فهو مُرسَل من الله لشعب إسرائيل. ولذلك و كأَنَّ  نِيقُودِيمُوس  يُقَدِّمُ ليسوع هذا العرض ” نحن نعلم من أنت يا معلم ونثني على جهودك ونسمح لك بالانضمام الى مجموعة المعلمين الذين هم قائمين في إسرائيل. أي نحن نعطيك يمين الشركة لتقوم معنا بهذه الخدمة التعليمية المباركة، وبالتالي نحن معترفين بك وبقدراتك- مثلك مثلنا-“

حوار جريء لكنه محدود الطبيعة يوجه ليسوع الذي لم تشهده الكتب المقدسة على  أَنَّهُ  شخص دبلوماسي بل  إِنسان حق واجَهَ وصلب. فيأتي جواب يسوع بالنفي “لا أنت/ أنتم لا تعلمون من أنا ولا تدركون معنى عمق تعاليمي ولا أريد الانضمام الى بوتقتكم الْفَرِّيسِيِّة -شكراً لك” . أي أَنَّ يسوع يرفض أن يكتفي  الإِنْسان في معرفته لجوهره الإلهي من خلال الاعتماد على المعجزات أو الآيات التي صنع فهذا وحده لا يقود الى الملكوت ولا إلى فهم جوهر الله و إِرَادَتِهِ .

فيجيب يسوع نِيقُودِيمُوس ويحاوره ليأخذه لبعد مختلف عَمَّا  في بال  نِيقُودِيمُوس  الذي توقع أَنَّ يسوع سيوافقه على كلامه ويومأ له رأسه مؤيداً لاعترافاته وادراكاته البشرية فينقله من الحوار الجسدي الى الحوار الروحي “إلا أَنْ يولد  الإِنْسان من فوق فلا يقدر أَنْ يرى ملكوت السماوات”. لم يسأل  نِيقُودِيمُوس  عن ملكوت السماوات ولا عن التجدد ولا عن المُعْضِلَة الإنسانية الايمانية ولكن كما اِختَتَمَ يوحنا الاصحاح الثاني في العدد 25  أَنَّ يسوع كان يعلم ما هو في قلوبهم فنراه في حواراته المسجلة في الإِنْجِيل يخترق قلب كل من يحاوره آخذاً إياه الى البعد الحقيقي للأسئلة وللاحتياجات البشرية.

وهنا أود التنويه  بأَنَّ يسوع لم يقل مصطلح الولادة الثانية أو الولادة من جديد. هذا المصطلح الذي نراه يتزاحم من مجتمع الى آخر. فالكثير من المسيحيين اليوم يطلقون على أنفسهم هذه الكلمة  بأَنَّهُ  قد اختبروا ولادة ثانية أو الولادة من جديد. وهنا أقدم المثل التالي:  الإِنْسان العازب هو بالتأكيد  إِنسان غير مرتبط فلا يحتاج للقول وللشرح  بأَنَّهُ  غير متزوج عندما يقول  بأَنَّهُ   إِنسان عازب فبالتأكيد  الإِنْسان العازب هو غير متزوج. وبالتالي  فالإِنْسان الذي يخبر  بأَنَّهُ  مسيحي هو بالتالي  إِنسان مولود من جديد في كل نواحي حياته الايمانية فهذا النص الكتابي لا يخبرنا عن حدث يحصل لنا فنتجدد بل يخبرنا  بأَنَّ  الإِنْسان المسيحي عليه أَنْ يولد من فوق و إنْ  لم يكن مولوداً من فوق دَائِماً و أبَداً  فبالتالي هو لن يكون له حياة أبدية في المسيح. أي  أَنَّ  الإِنْسان المسيحي الذي لا يقبل الِانْفِتَاح على رؤية جديدة ومعرفة جديدة لفهم المعنى الروحي في لغة يسوع وفي أعماله بالبشرية هو  إِنسان غير قادر على الوصول الى ألُوهيَّة يسوع من خلال إِنْسانِيٌّته . هذا الانفتاح الروحي هو ولادة من فوق وليس ولادة ثانية وثالثة فالمولود من فوق هو في حالة تجديد وتطهير ومعرفة ووعي وإدراك ونمو مستمر وليس حدث لمرة واحدة بل حالة دائمة تشمل كل نواحي الحياة و إلاَّ  هذا  الإِنْسان ليس مسيحياً حقيقياً.

لكن  نِيقُودِيمُوس  يكمل في حالة عدم الفهم لمعاني كلمات يسوع فنراه يسأل بحسب منطقه عن كيفية الولادة من جديد بشكل جسدي طبيعي. و كأَنَّهُ  يسخر من كلمات يسوع التي تشترط ‏الإيمان الذي يغير بفعل نعمة الله كمطلب أساسي للدخول الى ملكوت السموات.

فنرى يسوع يجيبه هذه الإجابة التي لطالما حيرتنا نحن اليوم “الولادة بالماء والروح”. ماذا يعني هذا؟ أي ماء؟ هل هو الماء في المعمودية؟ ولماذا سيكلم يسوع  نِيقُودِيمُوس  عن المعمودية؟ هذا أمر غير منطقي ومتوقع لهذا النص!! وأي روح يقصد تلك التي على  الإِنْسان أَنْ يولد منها؟ أيها الأحبة، إن كان يصعب علينا نحن اليوم أَنْ نُدْرِك هذه الكلمات فهذا لا يعني  أَنَّهُ  كانت كقول صعب الفهم على  نِيقُودِيمُوس، فهو لاهوتي فريسي ومعلم في إسرائيل وبالتالي عليه فوراً أَنْ يستحضر في باله النصوص الكتابية المقدسة وبالتحديد سفر النبي حزقيال الذي يتكلم عن الماء والروح وبالأخص في الاصحاحات 36- 37. فالماء هي لتطهير كل ما هو نجس والروح هي لأجل أَنْ تحيي رميم العظام وبالتالي من يريد أَنْ يرى ملكوت الله عليه أولاً أَنْ يعترف بحالته البشرية الساقطة ويطلب رحمة الله وعونه ونعمته كي يطهره الله وينفخ فيه من روحه التي هي قوة تعمل في الخليقة فتحييها وبالتالي يدرك من خلال عمل الروح ويعترف  بأَنَّ يسوع هو ابن الله ورسول الآب الآتي إِلَى العالم ليخلصه وهكذا يمجد المؤمن أصل يسوع السماوي وليس فقط كونه معلم من خلال اثباتات معجزاته  لأَنَّهُ  حتى الشياطين قادرة على القيام بأعمال خارقة لكنها لا تحيي الاموات ولا تشبع وليس لها أي سلطان وبذلك يعترف  الإِنْسان بأزلية وأبدية يسوع وألوهيته.

لا نستطيع القول بأننا مسيحيين دون أَنْ نكون قد ولدنا من فوق، قد طهرنا الله بعمله و بأَنَّهُ  قد زار قبورنا ولمسنا وأقامنا في شخص يسوع حتى نكون هنا اليوم، هذا النص يا أحبة هو دعوة لاِلتِزام شخصي داخلي وجذري لنتحد بعمق بيسوع وليس فقط لنعرفه معرفة محدودة فهذه ليست مسيحية. بل أن ندرك بأَنَّهُ  لولا يسوع الذي كان لنا هو الماء والروح فلا خلاص لنا ولا حياة أبدية. يقول المصلح المشيخي جون كالفن “مثلما لم يكن هنالك خلاص خارج فلك نوح وقت الطوفان العظيم الذي أهلك العالم، لذلك نحن أيضاً نؤمن  بأَنَّهُ  ليس هنالك خلاص مؤكد خارج المسيح الذي يقدم نفسه لنا لنتمتع به وبنعمته نحن المختارون في الكنيسة”.

يدعونا الإِنْجِيل المقدس اليوم من خلال شخصية  نِيقُودِيمُوس  التي ترينا الصراع بين الفكر اليهودي السائد حينها  بأَنَّ كل من كان من نسل إبراهيم سيرث الملكوت وبين الفكر المسيحي الذي يقدمه يسوع  بأَنَّ الايمان بمن هو يسوع ولبسه والاتحاد به هو الأساس والمطلب الرئيسي كي يرى  الإِنْسان ملكوت الله وهذا الايمان يتجلى بحالة ولادة دائمة من الماء المطهر والروح المحيي وبرفض يسوع يكون  الإِنْسان قد دان نفسه بنفسه واستبعد ذاته عن الاقتراب من الخلاص الحقيقي ومن مشروع الله الفادي الذي انكشف لنا في شخص يسوع.

الله الروح القدس يزورنا اليوم في قبورنا مقدماً لنا القيامة والحياة في شخص يسوع، إِن سمعنا اليوم صوته فلا نقسي قلوبنا المحدودة بل نفتح أنفسنا لعمله المغير فينا فنكون مسيحيين حقيقيين على صورة يسوع كمثاله. -آمين

اترك تعليقاً