الإنجيليون ومريم العذراء – الدكتور جورج صبرا

الدكتور جورج صبرا

رئيس كلية اللاهوت للشرق الأدنى. أستاذ متخصص في مادة اللاهوت النظامي

Image

 يجابه الإنجيلي في حديثه مع غير الإنجيلي في بلادنا سريعا بالسؤال عن مكانة العذراء عنده، وذلك لان السيدة العذراء مهمة جدا للتقوى والروحانية في الكنائس الشرقية لدرجة أن غيابها من الروحانية واللاهوت الإنجيليين يشكل، في نظر بعضهم، تشكيكا أساسيا في شرعية المسيحية الإنجيلية.  ولا عجب، فان التقوى وبعض العقائد المريمية ولدت وترعرعت وازدهرت في الشرق الأوسط وطبعت المسيحية الشرقية بطابع خاص.
لا يقدر الإنجيليون أن يتواجدوا في هذا الشرق ويتجاهلوا هذا الوجه الهام للمسيحية الشرقية.  والتاريخ يظهر انهم لم يتجاهلوا هذا الواقع.  فمنذ مجيء المرسلين الأميركيين الأولين وغيرهم من المرسلين الإنجيليين وحتى هذا اليوم واجه الإنجيليون المسائل المريمية المتعلقة بشفاعة العذراء وعقائد أخرى بشكل جدي وبمواقف سلبية.  كان الموقف الإنجيلي، ولم يزل إلى حد كبير، دفاعيا وجدليا حول كل المسائل المريمية.  كان الهدف محاربة الآخرين والإثبات أننا على حق وهم على خطأ.  وقد بادل المسيحيون الآخرون الإنجيليين هذا الهدف وذاك الموقف الدفاعي.
لكننا اليوم نحيا في عصر مسكوني، والفكر اللاهوتي المسئول في أيامنا إما يكون مسكونيا أو لا يكون.  إن إعادة النظر المسكونية في موضوع خلافي كهذا إنما تتم في روح تختلف عن روح العصور التي مضت.  الموقف الأولي في المقاربة المسكونية ليس موقف الشك والدفاع والانتقاد وإنما هو موقف الاحترام والانفتاح والمحبة.  وكما يقول اللاهوتي الإنجيلي الشهير كارل بارت في إطار معالجته لموضوع مثير للجدل بين المسيحيين: “يجب أن نحترم شهادة الذين كانوا قبلنا في الكنيسة والذين هم معنا الآن فيها لأنها شهادة آبائنا واخوتنا الذين نحترم ونحب”.[1]
لكن  يجب أن يكون الأمر واضحاً منذ البداية. إن الموقف الإنجيلي الأساسي من التقوى والعقائد المريمية لم ينتج عن موقف مسبق من شخص العذراء أو عن مزاج هذا أو ذاك من اللاهوتيين الإنجيليين أو من روحانية هذا أو ذاك من آباء الإصلاح، بل إنه يُفسّر ويُفهم على أساس المبدأ الإنجيلي الثابت القائل بأن كلمة الله المشهود لها في الأسفار المقدسة القانونية هي المقياس النهائي والمرجع الوحيد لكل تعليم أو لاهوت أو فكر أخلاقي أو نظام أو عبادة أو روحانية.  لقد ارتضى الإنجيليون لأنفسهم مرجعًا واحدا نهائيا – كلمة الله الموحاة والمشهود لها في الأسفار القانونية. هذا هو منبع ومصدر كل إصلاح وتغيير حدث، وكل إصلاح وتغيير يحدث وسيحدث في الكنائس الإنجيلية ذاتها. لقد شعر الإنجيليون عبر العصور بأن الكنائس المسيحية الأخرى، وبالأخص الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، قد تخطت شهادة كلمة الله المكتوبة في بعض نواحي التقوى المريمية وفي بعض العقائد المريمية أيضا.  فكان رد فعل الإنجيليين انهم تحفظوا جدا حول معظم المواضيع التي تتعلق بمريم العذراء.  فصارت مريم العذراء مرتبطة بقصة الميلاد فقط، فقلما يؤتى على ذكرها خارج إطار مناسبة الميلاد.  ورأى الإنجيليون ان ثمة تبريرا لموقفهم هذا في العهد الجديد ذاته الذي يتضمن مقاطع وأقوالا أما لا تبرز أهمية مريم العذراء الخاصة أو تظهرها في بعدها عن يسوع.  فإنجيل مرقس، مثلا، يرسم صورة سلبية لعلاقة يسوع بعائلته، بأمه واخوته.  إنني أشير إلى الفصل الثالث من هذا الإنجيل حيث نقرأ ان يسوع كان يعلم الجموع، فقيل له ان أمه واخوته خارجا يطلبونه، أجاب قائلا: “من أمي واخوتي.  ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال ها أمي واخوتي، لان من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي”  (مرقس31:3-35؛ أيضا متى 12 : 46-50 ؛ لوقا 8: 19 – 21). أو في لوقا 11:(28-27) حين صرخت امرأة من الجمع قائلة: “طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما.” اما يسوع فقال: “طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه”.   وإذا أضفنا إلى هذا صمت الرسول بولس في رسائله حول مريم العذراء وكل القصص الميلادية وصمت القرون الاولى للمسيحية وغياب التقوى المريمية منها ، بحيث، مثلا، لا نجد ذكرا لترانيم او اناشيد او صلوات مريمية ولا اعياد مريمية قبل القرن الرابع – في الغرب تحديدا قبل القديس اوغسطينس،  وأنّ الاعياد المريمية مثل البشارة والرقاد وميلاد العذراء والتطهيرلم تُعتمد في الغرب المسيحي حتى القرن السابع ، وان لا ذكر لقصص عن قدرة مريم العجائبية قبل القرن العاشر ميلادي – كل هذه المعطيات  تساعدنا ان نفهم لماذا  لم يشعر الإنجيليون بأنهم يهملون بعدا مهما للبشارة المسيحيّة الأساسية في عدم إيلائهم موضوع مريم اهتماما خاصا أو في صمتهم حولها.
 
ان الموقف الإنجيلي من العذراء مريم هو، اذًا، بشكل عام موقف يكتفي بالحد الأدنى لجهة الإشارة إليها في الكنائس.  يتجاهل الإنجيليون هذا الموضوع إلى حد كبير بل هم صامتون حوله.  هناك ارتباك لدى الإنجيليين حين تذكر مريم بشكل إيجابي خارج إطار قصة الميلاد.  ولعل هذا الصمت وهذا الارتباك مبرران حين نراهما كرد فعل على تعبد مريمي مُفرط وعلى لاهوت عقائدي مريمي يشدد على مركزيتها في التقوى والعبادة.  بقدر ما يتزايد كلام المسيحيين الآخرين عن مريم بقدر ما يتعمق الصمت الإنجيلي حولها.
يخرق هذا الصمت في شرقنا العربي بضعة كتابات أذكر منها:
1.     مقالات بروتستنتية في  العذراء: هي مقالات لانجيليين غربيين ظهرت أولا في مجلة “الوحدة في الايمان” باللغة الفرنسية، وعرّبها  الأب نقولا أبو حنا المخلصي، ونشرها دير المخلص سنة 1972.
2.     كتاب مريم الرب ورمز الكنيسة  لاحد مؤسسي رهبنة تيزي الانجيلية ماكس توريان والذي عُرّب ونشر في دار المشرق سنة 1992.
3.     مقال لي بعنوان “الانجيليون ومريم العذراء” قي كتاب اصدرته عام 2001 في “سبيل الحوار المسكوني” وأبني على هذا المقال معظم محاضرتي اليوم.
4.     كتيّب للقس المعمداني ، تشارلي قسطه – مريم العذراء – صدر عام 2009، وهو مجموعة عظات  حول مريم العذراء وبعض القابها الكتابية والكنسية.
 
الكلام الإنجيلي العربي في العذراء مريم اذًا قليل جدا. لكن قبل أن نحاول الإجابة عن السؤال عما إذا كان هذا الموقف الإنجيلي المتحفظ جدا حول العذراء مريم سليمًا ومدعومًا تاريخيًّا في تراث كنائس الإصلاح وكتابيا في شهادة كلمة الله، أود ان احدد المسائل المريمية التي تواجه المسيحية الإنجيلية.
ينبغي أولا أن نميز بين التقوى المريمية والعقيدة المريمية، هذا مع العلم بان التقوى والعقيدة مرتبطتان مع بعضهما البعض.  عندما نتحدث عن التقوى المريمية إنما نشير إلى أمرين:  الأول هو تكريم العذراء مريم وتعظيمها في ترانيم وصلوات وتأملات وعظات.  أما الثاني فهو الدعاء إليها طلبا للشفاعة لدى ابنها المسيح.  التكريم شيء والدعاء طلبا للشفاعة شيء آخر، فمن الممكن ان نكرم العذراء مريم دون طلب الشفاعة لكن العكس غير صحيح.  أما المسائل الإيمانيّة والعقيدية فهي خمسة:           
الولادة من عذراء:  الإيمان المسيحي يصرح بان يسوع ولد من مريم الفتاة العذراء.  وهذا الاعتقاد مبني على قصص الميلاد كما وردت في إنجيلي متى (18:1-25) ولوقا (26:1-31).  لقد اصبح هذا الجزء من قصة الميلاد عقيدة أو موضوع إيمان حين أدخل إلى قانون الإيمان النيقاوي في القرن الرابع.  فصار المسيحيون يؤكدون إيمانهم بالقول: “… وتجسد بالروح القدس من مريم العذراء…”
إنّ ولادة يسوع من عذراء ليست عقيدة تفصل بين الإنجيليين وسائر المسيحيين.  الكتاب المقدس يقول بها والإنجيليون يعتبرون الكتاب المقدس السلطة النهائية للعقيدة واللاهوت فأنى لهم أن يرفضوها؟ 
عقيدة والدة الإله (theotokos): خلال الصراع اللاهوتي حول طبيعة المسيح في القرن الرابع أكد الآباء المجتمعون في المجمع المسكوني الثالث في أفسس (431م) بان مريم هي والدة الإله.  وقد ثبّت المجمع المسكوني الرابع في خلقيدونية (451م) هذا التعليم حين نص في صيغته الكريستولوجية بان المسيح “مولود من الآب قبل كل الدهور بحسب ألوهيته، ولكن في هذه الأيام الأخيرة ولأجلنا نحن البشر ولد من مريم العذراء، والدة الإله بحسب إنسانيته”[2] . بعد هذين المجمعين اصبح القول بأن مريم والدة الإله تعليما عقائديا لكل الكنائس المسيحية آنذاك ما عدا الكنيسة المسماة “نسطورية” التي رفضت هذا اللقب لمريم والفكر الكريستولوجي الذي يفترضه ويمليه.
هل يستطيع الإنجيليون أن يعترفوا بأن مريم العذراء هي والدة الإله كما علَّمت المجامع وكما تعتقد الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية؟ هذا سؤال يُساء فهمه كثيراً لدى معظم الإنجيليين.  أظن أن الأكثرية الساحقة من الإنجيليين – ليس هنا في الشرق فحسب بل في أمكنة أخرى أيضا – لو سئلت هذا السؤال لأجابت بالنفي.  الكل مستعدون أن يسمّوها والدة المسيح، أم يسوع، ولكن ليس والدة الإله.  إلا ان التراث الإنجيلي الإصلاحي الأصيل يفاجئنا مرة أُخرى:  مارتن لوثر والتراث اللوثري من بعده،[3] وأولريخ زوينغلي والتراث المُصلَح من بعده،[4] وإلى حد كبير جون كالفن المتحفظ حول هذا اللقب،[5] قبِلوا هذا اللقب وأصروا عليه.  ولكن الإنجيليين ليسوا مُلزمين بشكل مطلق بما قاله المصلحون إلا إذا كان ما قاله وعلمه هؤلاء متوافقاً مع كلمة الله المشهود لها في الكتاب المقدس.  فهل هذه التسمية للعذراء مقبولة لاهوتيا وكتابيا لدى الإنجيليين؟
في الأصل اليوناني “theotokos” مركبة من “theos” (الله) و”tokos”  التي هي مستخرجة من فعل tikto  ويعني “حمل” أو “ولد” أو “انجب”، لذلك فالكلمة المركبة تعني “حاملة الإله” أو “والدة الإله”.  يفيدنا المؤرخون بان لقب “والدة الإله” استعمل قبل القرن الخامس عند بعض اللاهوتيين وفي بعض نصوص ليتورجية.[6] ولكنه ارتقى إلى مستوى العقيدة عند وروده في مجمعي أفسس وخلقيدونية.  مهم جدا أن نعلم بأن عبارة “والدة الإله” والخلافات حولها في القرن الخامس تبرز في إطار بحث لاهوتي حول شخص المسيح.  فهي ليست تعليما عن مريم بقدر ما هي عن المسيح.  فقبولنا أو رفضنا لها إنما هو قبول أو رفض لمفهومِ معين لهوية المسيح ولماهية التجسد.  عندما يقول المسيحيون أن مريم العذراء هي والدة الإله لا يعنون بأنها ولدت الله من حيث الوهته.  لو كان هذا هو المقصود لتحوَّل الإنجيل إلى أسطورة.  العذراء مريم ليست في الثالوث فهي كانت ولم تزل مخلوقة ولا يمكنها ان تلد الإله من حيث الوهته.  ولكن من الضروري ان نستطيع القول بأنها ولدت إنسانية يسوع المسيح التي كانت متحدة اتحاداً جوهرياً بالوهته، أي، أن ابن مريم هو الابن الأزلي للآب كما يعلمنا الكتاب المقدس عن التجسد.  لماذا ضرورة هذا التأكيد؟  للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعود إلى الخلاف الذي ساد في القرن الخامس ميلادي وانتهى بإعلان مريم “والدة الإله.”  كان هناك تعليم نُسب إلى نسطوريس (مات حوالي 451م)، وعُرف بالنسطورية، بأن مريم كانت أم المسيح الإنسان وأن الأقنوم الثاني للثالوث اتحد مع المسيح الإنسان الذي حملته مريم في أحشائها.[7]  بحسب التعاليم المُسماة نسطورية، كل طبيعة إنسانية هي أيضا شخص إنساني، فإذا كان في المسيح طبيعة إنسانية فهو أيضا شخص إنساني، وهذا الشخص يتميز عن الشخص الإلهي للطبيعة الإلهية ولكنه متحد معه.  الاتحاد في المسيح، إذن، ليس بين الطبيعتين (الإنسانية والإلهية) فقط، بل هو اتحاد بين الشخصين أيضًا.  يسوع الإنسان وكلمة الله اتحدا في علاقة نعمة خاصة، ومريم هي أم المسيح الإنسان فقط.  فإذا سألنا من هو الذي حملته مريم في أحشائها وولدته يقول أتباع هذا التعليم إنه المسيح الإنسان، وإن الله لم يولد كإنسان بل اتحد مع إنسان كان موجودا كشخص إنساني قبل الاتحاد.  هذا عنى للكنيسة الجامعة آنذاك أن الله لم يتجسد حقاً بمعنى أنه ولد كإنسان، كأي إنسان.  وهذا تعليم ينطوي على رفض جذري للتجسد الحقيقي لأن التجسد الحق يتضمن ولادة إنسانية حقيقية ويفترض أُمّا بشرية حقيقية.  رأت الكنيسة، وعن حق، أن تعليم النساطرة يهدد وحدة المسيح وحقيقة التجسد.
جاء الرد على هذا التعليم في مجمع أفسس الذي جئنا على ذكره سابقا حيث أكَّدت الكنيسة أن الاتحاد في المسيح هو بين الطبيعتين مع أنهما تبقيان متمايزتين إلا أن هناك شخصاً واحداً ومسيحاً واحدا، وليس شخصين.  فمن الخطأ القول إذن أن الذي ولد من العذراء هو إنسان اتحد به كلمة الله.  الصواب هو أن الله قَبِلَ أن يولد كأي إنسان، أي أن يولد ولادة جسدية وتكون تلك ولادته الشخصية.  الله صار إنسانا حقا وخرج من رحم امرأة بشرية حق، لذا فإن مريم هي والدة الإله.  إذا كان الله صار إنسانا في التجسد وإذا اتحدت الطبيعتان في شخص واحد فلا يجوز القول أن مريم هي فقط أمّ المسيح الإنسان وكأن إنسانيته منفصلة عن ألوهته.  إن مريم هي والدة شخص واحد، الله المتجسد في يسوع الناصري، الإله الحق والإنسان الحق.  هكذا نرى أن الاعتراف بأن مريم العذراء هي والدة الإله يحمي إنسانية المسيح ويكشفها وكذلك يؤكد تجسد الله الحقيقي الكامل في طبيعتنا البشرية.  فلا عجب إذن إذا وجدنا أن المصلحين واللاهوتيين الإنجيليين الكبار قبلوا هذا الاعتراف وأصروا عليه لأنهم رأوا فيه محكاً للاعتقاد الصحيح حول المسيح وتجسد الله فيه.[8]
طالما أن هذه العبارة تُفهم وتُستعمل في إطار تأكيد لاهوتي لهوية المسيح فهي ضرورية وصحيحة ولا يمكن للإنجيليين أن يرفضوها دون أن يعرضوا إيمانهم بالمسيح للتشويه.[9] ولكن عندما يصير هذا الاعتراف عن مريم، لا عن يسوع، ويتخذ بُعدا مريميا مستقلا وبعيدا عن معناه الكريستولوجي الأصيل يصبح مشكلة للإنجيليين، أي إذا استُخدم هذا اللقب على أساس أنه يعطي مريم امتيازاً خاصا يُمكِّنها من طلب الوساطة أو الشفاعة لدى ابنها يصير عثرة حقيقية في طريق المؤمن الإنجيلي.  عندما تصبح مريم هي محور هذا اللقب يتحفظ الإنجيليون حوله تماما كما فعل المصلح جون كالفن.  فمع أن كالفن قَبِلَ بالكريستولوجيا التي حددها مجمعا أفسس وخلقيدونية والتي تسمح بعبارة “والدة الإله، إلا أنه اعتبر أن ثمة خطورة في استخدام هذا اللقب لمريم لأنه لا بد أن يستعمل لدعم دورها الشفاعي والوساطي لدى المسيح.[10] فالأم، بفضل علاقة الأمومة مع ابنها، تستطيع أن تطلب منه وتشفع لغيرها.  لقد رفض كالفن هذه النتائج العملية لهذا اللقب، ولكن هذا لا يعني أن الحقيقة الكريستولوجية فيه ليست شرعية.  وهنا تجدر الإشارة إلى تمييز هام يقول به اللاهوت الإنجيلي المعاصر بين لقب “والدة الإله” و”أمّ الله”.  إن اللقب الأصلي هو “والدة الإله أو “حاملة الإله” وليس “أم الله”، فالكلمة اليونانية المستخدمة لم تكن mhthr  (أم).  “الأمومة تتضمن معاني أوسع من الولادة أو الحمل.  إن عبارة “والدة الإله”  موقف كريستولوجي من هوية ذلك الذي كان في أحشائها وولدته، بينما عبارة “أم الله” تتعدى ذلك لتدلَّ على علاقة مميزة وخاصة بين مريم والله مما قد يسهل الانتقال من الكريستولوجيا إلى شفاعة مريم.  الاعتقاد بأن لمريم علاقة خاصة بالله تمُكِّنها من الشفاعة لديه بواسطة ابنها إنما هو اعتقاد خلافي.  إن القراءة الإنجيلية للأناجيل لا تقودنا إلى علاقة مميزة بهذا المعنى، لا بل إن علاقة الدم وروابط القربى لا تُعطى أهمية لدى يسوع.  إنه القائل أن أمه وأخواته واخوته هم كل الذين يصنعون مشيئة أبيه السماوي (مرقس 35:3، متى 49:12-50 ولوقا 19:8-21).  إن اللاهوت الإنجيلي يؤثر أن يتحدث عن “والدة الإله أو “حاملة الإله وليس عن “أم الله” لهذه الأسباب، مع التأكيد على أن الاعتراف بأن مريم هي والدة الإله هو اعتراف لاهوتي شرعي وضروري للاعتقاد الصحيح حول هوية يسوع المسيح.[11] (الإنجيليون هنا ينسجمون في المصطلح مع التراث الأرثوذكسي العربي).
 
عقيدة البتولة الدائمة:  عقد المجمع المسكوني الخامس سنة 553م في القسطنطينية للبحث في مسائل كريستولوجية أيضا.  أعاد المجمع التأكيد على تجسد كلمة الله من القديسة مريم “والدة الإله وأضاف “الدائمة البتولة”.  نجد هنا اقدم نص كنسي رسمي يؤكد ان مريم ليست فقط “والدة الإله” وإنما هي أيضا “دائمة البتولة”، أي إنها لم تعرف رجلها حتى بعد ان ولدت يسوع.  هذه الصفة لم تكن بجديدة كليا، فقد كانت مدار بحث ونقاش بين بعض اللاهوتيين وآباء الكنيسة، وقد أصر عليها بعضهم قبل إعلانها في المجمع المسكوني الخامس.  المسألة هي إذا ما كانت مريم قد أنجبت أولادا غير يسوع.  كل محاولة للإجابة عن هذا السؤال يجب ان تواجه ما يقوله العهد الجديد عن “اخوة يسوع وأخواته”.  منذ القرن السادس أصبحت “بتولة مريم الدائمة” عقيدة في الكنيسة واستمرت كذلك في الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية التي فسرت “اخوة يسوع وأخواته على انهم أقرباؤه.
إنّ بتولة مريم الدائمة مسألة بحاجة إلى بعض التوضيح.  لقد نشأ اعتقاد في الكنيسة القديمة بان مريم بقيت بتولا بعد أن ولدت يسوع فلم تعرف يوسف ولم تنجب منه أولادا بعد ولادة يسوع.  الكتاب المقدس لا ينص صراحة على هذا الأمر كما انه لا ينفيه.  وإذا ما سئل أصحاب هذا الاعتقاد عن معنى عبارة “اخوة يسوع” في الأناجيل يجيبون إنها تعني أقرباءه وانسباءه وليس اخوته برابط الدم.  ويستشهدون بآباء ومفسرين قالوا الشيء عينه وأيضا بشواهد من الكتاب المقدس حيث تستخدم كلمة “أخ أو “أخت” للدلالة على قريب أو قريبة.
فما موقف الإنجيليين من هذه العقيدة؟  لا يعتبر الإنجيليون أن هذه مسألة عقيدية إيمانية، فإنها تتعلق بسؤال تاريخي وتفسيري حول عبارة “اخوة يسوع”، ولا يرى الإنجيليون أساسا كتابيًّا واضحا لا شك فيه يقول ببتولة مريم الدائمة إلا أن منهم من قال، وما زال يقول، إن لا شيء يمنع الاعتقاد بأن أخوة يسوع هم أبناء عمه أو خالته أو ما إليه.  ولعل الكثيرين من الإنجيليين اليوم لا يعلمون بان آباء الإصلاح الإنجيلي، اعني مارتن لوثر وأولريخ زوينغلي وجون كالفن كلهم اعتقدوا بأن مريم كانت دائمة البتولة وعلّموا ذلك واعتبروا أن “اخوة يسوع” تعني أقرباءه.[12] القول إذن أن مريم هي دائمة البتولة ليس مسألة أساسية يختلف عليها الإنجيليون مع سائر المسيحيين.[13]
 
  عقيدة الحبل بلا دنس: في القرن التاسع عشر وبالتحديد سنة 1854 أعلن البابا بيوس التاسع عقيدة “الحبل بلا دنس” على النحو التالي:
“إننا نعلن ونؤكد ونحدد: إن العقيدة القائلة بان العذراء مريم الفائقة القداسة ‘حفظت من لطخة الخطيئة الأصلية منذ اللحظة الأولى للحبل بها وذلك بواسطة نعمة وامتياز فريدين من الله الكلي القدرة وبالنظر الى استحقاقات المسيح يسوع كمخلص للجنس البشري، هي عقيدة موحاة من الله، لذا يجب ان يعتنقها كل المؤمنين بكل ثبات وأمانة”.[14]
 
لقد اعتبرت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ان إعلان هذه العقيدة تتويج لسنين طويلة من الإعداد، وان الكنيسة لم تصغ عقيدة جديدة وإنما أعلنت رسميا ما كانت تعتقده دائما حول نقاوة العذراء من الخطيئة الأصلية.  ما تريد هذه العقيدة قوله هو ان طهارة المسيح من الخطيئة تبرز ويمكن فهمها افضل في ضوء كون مريم محفوظة من لطخة الخطيئة الأصلية، بذلك تكون مريم أول المفديين المخلصين.
فيما يتعلق بعقيدة الحبل بلا دنس إن الموقف الإنجيلي صريح وواضح.  لا يرى الإنجيليون أي أساس لها في الكتاب المقدس أو أية ضرورة لاهوتية إيمانية لها.  وهذه العقيدة التي أُعلنت رسميا في القرن التاسع عشر بعد الميلاد لم تكن مقبولة من كثيرين من اللاهوتيين في التراث الكاثوليكي الغربي، وعلى رأسهم القديس توما الاكويني (والبرتس الكبير) الذي علَّم صراحة أنّ لا ضرورة لها.  فإذا كان القصد منها حفظ المسيح من الخطيئة فالله قادر أن يفعل ذلك حتى لو كانت مريم ولدت بدنس الخطيئة الأصلية. ولا يختلف الإنجيليون هنا عن الكنيسة الأرثوذكسية من حيث عدم إقرارهم بهذه العقيدة.
 
 عقيدة انتقال العذراء الى السماء بالجسد والنفس:  بعد حوالي قرن من إعلان عقيدة الحبل بلا دنس أعلن البابا بيوس الثاني عشر في 1 تشرين الأول 1950 عقيدة انتقال العذراء إلى السماء على أنها عقيدة إيمانية:
“إننا … نعلن ونؤكد ونحدد كعقيدة موحاة من الله: إن أم الله الطاهرة مريم الدائمة البتولة بعد حياتها على الأرض انتقلت بالجسد والنفس إلى مجد السماء”.[15]
هذا الإعلان لا يبت في مسألة موت مريم أو عدمه، أي هل انتقلت إلى السماء وهي حية أم بعد الموت.  لكن البابا بيوس الثاني عشر قدم لهذا الإعلان بالتأكيد على انه استجابة لطلبات من أساقفة وكهنة ومؤمنين أرادوا ان تحدد هذه العقيدة.  وهي، بحسب البابا، “مبنية على الأسفار المقدسة ومتأصلة في قلوب المؤمنين ومقبولة في عبادة الكنيسة منذ اقدم الأزمان”.  [16]لقد منح الله مريم هذا الامتياز العظيم لأنها قبلت ان تكون أمه، كما يشرح اللاهوتيون الكاثوليك.[17]  تريد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية القول من خلال هذه العقيدة بان العذراء مريم هي أول المخلصين.  وحدها – بعد المسيح طبعا – مُجِّدت من الله بهذا الشكل الجسدي، بينما على جميع المؤمنين الآخرين أن ينتظروا القيامة العامة في الدينونة الأخيرة.  إن مريم هي إذن رجاء الخلاص للإنسانية.
ان الموقف الانجيلي من عقيدة انتقال العذراء إلى السماء التي أعلنها البابا بيوس الثاني عشر سنة 1950 ونصت على أن العذراء مريم انتقلت، بعد حياتها على الأرض، جسدا ونفساً إلى مجد السماء، هو كما من سابقتها: لا أساس لهذه العقيدة في شهادة كلمة الله.  فالعذراء مريم تختفي من الصورة بعد الفصل الأول من أعمال الرسل (14:1) حيث نجدها مجتمعة مع الرسل والنساء وهم مواظبون على الصلاة بنفس واحدة.  يرى الإنجيليون أنه تعظيم لمريم غير مدعوم كتابيًا ولا مبرَّرا لاهوتيًّا.
 
نأتي الآن إلى مسائل التقوى المريمية، وأولها،  تكريم العذراء.  هل يقدر الإنجيليون أن يكرِّموا العذراء مريم دون ربط ذلك بالدعاء إليها بهدف نيل الشفاعة لدى ابنها؟  بالنسبة لإصلاح القرن السادس عشر لم يكن تكريم العذراء يشكل أية مشكلة.  لقد أبقى بعض المصلحين الكبار على كثير من الأعياد المريمية ولم تغب العذراء عن التقوى والروحانية الإنجيليتين إلا تدريجاَ عندما احتدم الصراع بين الإنجيليين والكاثوليك في أوروبا وعندما صار الكاثوليك يطوِّرون عقيدة مريمية شبه مستقلة في ذاتها وذلك منذ أواخر القرن السادس عشر.  فبقدر ما بات الفريق الكاثوليكي يُعرِّف نفسه بالانتماء إلى مريم العذراء قلَّ اهتمام الإنجيليين بها كرد فعل.  لكن هذا التطور التاريخي المتعلق بأوضاع معينة في بلدان معينة يجب ألا يشكل قانونا أبديا للإنجيليين.  فإذا كان هناك أساس كتابي وكريستولوجي لتكريم العذراء فلا يجوز التخلي عنه فقط لأن الآخرين غالوا في مواقفهم.  ولكن ماذا نعني بتكريم العذراء؟
التكريم لا يعني العبادة ولا التعبد.  التعليم الأرثوذكسي والكاثوليكي واضح في هذا المجال، فهو يميز بين التكريم والعبادة.  العبادة(latreia) )  الحق هي للثالوث وحده ولا يُشرك فيها أي مخلوق. أما التكريم (douleia ) فهو لمريم وللقديسين.  هذا هو التعليم الرسمي والموقف الصحيح لتلك الكنائس ولكن السؤال حول التطبيق الصحيح في ممارسة الناس أمر آخر.  المهم أن التكريم لا يعني عبادة ويجب ألا يتضمن أي عبادة وسجود. (الإستخدام الشعبي والرسمي أحيانّا لكلمة “تعبّد” مضلل ومنفّر للإنجيليين).  ثم إن التكريم بالمعنى الإنجيلي لا يقود بالضرورة إلى طلب الشفاعة من مريم العذراء والدعاء إليها.  تكريم شخص يعني تعظيمه، والتغني بصفاته الحميدة، وإبراز فضائله، واحترامه، وتذكُّره (أي إقامة تذكار له) وإعطاءه قيمة.  هذا المفهوم للتكريم ليس بلا أساس كتابي. إن الفصل الأول من إنجيل لوقا يشير إليه صراحة.  نقرأ أن اليصابات، لما سمعت سلام مريم، امتلأت من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت: “مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك.”  وكان جواب مريم: “تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلى أتضاع أَمته.  فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني.” (لوقا 41:1-42، 46-48).
وفي معرض النقد الذاتي أقول: إن الإنجيليين في بلادنا يكرّمون ويحتفلون بمناسبات وأفكار وشخصيات وأعياد شتى ولكن مريم العذراء مستثناة من ذلك.  كُتُبُ الترانيم الإنجيلية تحتوي على عدة ترانيم تعظِّم الكتاب المقدس، أي أن هناك ترانيم عن الكتاب، وهذا شيء عظيم وهام لأن الكتاب وسيط نعمة،  بواسطته تأتينا كلمة الله.  ولكن هل يُكرِّم الإنجيليون مريم التي بواسطتها صار الله بشرا لأجلنا؟  كنائس إنجيلية كثيرة تحتفل بعيد الأم في خدمة العبادة ولكن ليس ثمة يوم للاحتفال بعيد أم يسوع.  الإنجيليون يكرِّمون الوطن وعندهم ترانيم عدة تمجد الوطن وحبه اللازم على المؤمنين ولكن ليس هناك ترنيمة واحدة مخصصة لمريم.  يقيم الإنجيليون تذكارا لشخصيات كتابية كثيرة ولكن دون ذكر مريم وكأنها ليست مذكورة في الكتاب المقدس.  بديهي القول ان أي تكريم إنجيلي للعذراء يجب أن يكون ذا أساس كتابي، وواضح أن الاهتمام بمريم في الكتاب المقدس لا يخرج عن علاقته بدور المسيح الخلاصي.  فليس هناك ما يمنع الإنجيليين من قبول صلوات تذكر مريم العذراء وترانيم عنها ما دامت هي صلوات وترانيم كتابية وكريستولوجية. 
ما قيل عن تكريم العذراء في الصلوات والترانيم ينطبق أيضا على تكريمها في الوعظ والتأمل.  عظات الإنجيليين تتناول الشخصيات الكتابية شتى مثل يوحنا المعمدان وبطرس وبولس ويوحنا لكن نادرا ما تكون مريم موضوعاً لعظة.  العظات الإنجيلية تتناول أيضا شخصيات من العهد القديم، ابراهيم وموسى وداود، لكن قلَّما يؤتى على ذكر مريم.  والمُربك بعض الأحيان أن عظات بعض الرعاة الإنجيليين في الشرق الأوسط المعاصر تعظِّم رؤساء وملوكاَ وتكرِّمهم ولكن مريم لا تحظى بتكريم منهم.  لم يكن هذا موقف الإصلاح الإنجيلي في القرن السادس عشر.  لقد كرم الإصلاح الإنجيلي مريم العذراء في الوعظ وإعلان الكلمة وهما الأساس والمركز في خدمات العبادة وفي الروحانية الإنجيلية.  إن التطورات التاريخية والخلافات الحادة بين الكنائس طمست هذا البُعد للتكريم الإنجيلي لمريم العذراء إلا أن زوال حالة العداء بين الكنائس وحلول المناخ المسكوني من شأنهما أن يفسحا في المجال أمام الجميع لإعادة النظر في ردات فعلهم المتطرفة.  من هذا المنطلق يستطيع الإنجيليون أن يعودوا إلى تراثهم الإصلاحي ويتعرَّفوا على عمق التعاطي اللاهوتي الإنجيلي وغناه مع شخصية العذراء مريم.  لقد بات المفسرون واللاهوتيون الإنجيليون يعلمون أن ليس ثمة صورة واحدة للعذراء في الأناجيل.  فإنجيل مرقس الذي يرسم علاقتها بيسوع بشيء من السلبية ليس هو المقياس ولا هو المرجع الوحيد.  وإنجيل متى يبرزها بصورة أقل سلبية. أما إنجيل لوقا فيضعها في إطار إيجابي جدا وكذلك إنجيل يوحنا حيث تصبح مريم مثال التلمذة الحقيقية.  هذه أمور عرفها الإصلاح الإنجيلي في أوائله وتحدث عنها بإسهاب، ويمكن أن نتعلم الكثير من الالتفات إلى ما قاله آباء الإصلاح الإنجيلي في هذا المجال.  وهنا أود أن أعطي فكرة موجزة عن الخطاب المريمي – إذا صح التعبير – للمصلحين الكبار.
مارتن لوثر – أبو الإصلاح في أوروبا – ألّف كتابا حول “نشيد مريم” في إنجيل لوقا وتحدث عن “العذراء المجيدة” وعن “والدة الإله الوديعة المتواضعة”، التي كانت لا شيء أمام الله، بل إناء لنعمته.[18]
يؤكد لوثر أن مريم العذراء ليست مثال المؤمن المسيحي فحسب بل هي مثال الكنيسة، إنها رمز الكنيسة في إطاعتها لأمر الروح القدس، وفي تواضعها وفي دعوتها العظيمة.  وهي تاليا تجسيم للنعمة غير المُستحَقَّة.[19]
أما مساعد لوثر ويده اليمنى في الإصلاح، فيليب ملانكثون، فقد أكَّد على كون مريم العذراء مثالاً للكنيسة. وقد اعتمد في ذلك على يوحنا 26:19 حيث يوصي يسوع التلميذ الذي كان يحبه بأمه.  ملانكثون رأى في ذلك، كغيره من اللاهوتيين عبر العصور، أن لهذه الحادثة مدلولا رمزياً.  في نهاية إنجيل يوحنا تصبح مريم تلميذة ليسوع – لا كما في إنجيل مرقس.  وفي قوله للتلميذ الحبيب: “هوذا أمك تأكيد على أنها – كأم التلميذ المثالي – تصبح مثالا للتلمذة الحقيقية وللإيمان.[20] ورمزية مريم للكنيسة يُقرأ أيضا من إنجيل لوقا حيث هي الإنسان الذي يقف أمام الله بلا شيء ولا يأتي إلى الله بشيء بل يستلم كل ما له وكل ما هو من الله:  تلك هي الكنيسة الحق.
المصلح السويسري أولريخ زوينغلي والتراث المُصلح من بعده أصرَّ على أن أفضل طريقة لتكريم والدة الإله هي في التمثل بفضائلها وصفاتها.[21]  وفي جوابه عن السؤال، كيف نستطيع أن نكرم العذراء بطريقة صحيحة، أعطى زوينغلي جواباَ عميقا ذا أبعاد اجتماعية ثوروية إذ قال: “ليس بالشموع والبخور والأغاني… فهي لا تحتاج إلى كنوزنا ولا حتى لتدشين كنائس على اسمها بل هي تريد أن تُكرَّم وتمُدح في نساء هذا العالم وبناته.  نكرِّمها بإعطاء المال الذي نصرفه على الشموع من أجل الحفاظ على كرامة النساء والفتيات الفقيرات اللواتي شوه الفقر جمالهن”.[22]
تكريم مريم العذراء إذن يكون بالالتفات إلى الفقراء لأن مريم وابنها، يقول زوينغلي، هما قرب الفقراء منذ ميلاد يسوع.[23]  نرى هنا مريم في كونها ناطقة باسم فقراء شعب الله، باسم المقهورين والمساكين والمهمشين. وكما يرسمها لوقا، هي رمز لأولئك الذين يطيعون كلمة الله، للبقية التي ترث الملكوت.
وأخيرا المصلح الفرنسي الشهير جون كالفن صوَّر مريم ومعناها للإيمان المسيحي بطريقة أخلاقية فقال عنها أنها “معلمتنا” واعتبرها مثالاً يُحتذى في التلمذة وفي معرفة الكتاب وفي تمجيد الله والشهادة للناس.  تكريم كالفن لمريم كان ذا منحى أخلاقي وتعليمي مرتكز على الأناجيل وخصوصا بداية إنجيل لوقا[24].  ففي تفسيره للوقا 42:1 كتب:  “لا نقدر اليوم أن نحتفل بالبركة المعطاة لنا في المسيح من دون أن نتذكر في الوقت ذاته الشرف الرفيع الذي منحه الله لمريم التي اختارها لتكون أمَّا لابنه الوحيد”.[25]
لوثر، وملانكثون، وزوينغلي، وكالفن هم بعض من كثيرين في التراث اللاهوتي الإنجيلي يرونا كيف يمكن أن نتعاطى بشكل خلاق وإيجابي مع موضوع مريم العذراء من ضمن المبادئ الإنجيلية الأساسية.  طبعا، ليس المطلوب أو الممكن الآن تحويل الفكر اللاهوتي أو تطوير الروحانية الإنجيلية بين ليلة وضحاها، ولكن اكتشاف العقائد المريمية المشتركة والتكريم المريمي المقبول في تراثنا الإنجيلي يُمكِّننا من أن نفهم ونتفهم التراثات المسيحية الأخرى في عقائدها وتقواها المريمية، بل وأن نثمِّن ذلك عندها.  فليس كل شيء عن مريم عند الآخرين هو عثرة للإنجيلية.  فأن يسموها مثلا والدة الإله ليس أمرا كاثوليكيا أو أرثوذكسيا محضا بل هو ضرورة لاهوتية مسيحية مشتركة.  وأن يكرِّمها ويعظمها الآخرون فليس من خصائصهم وحدهم لأنه مورس عندنا وموجود لدينا.  “مريم العذراء” ليست كاثوليكية أو أرثوذكسية فقط بل هي إنجيلية أيضا.  في خضم الصراعات بين الكنائس نسينا هذه الحقيقة ولكننا في هذا العصر المسكوني مدعوون لننظر إليها كما ينظر إليها العهد الجديد:  أم يسوع، بشر مثلنا في كل شيء، قريبة جدا ليسوع مع إنها بعيدة أحيانا عنه، السامع المثالي لكلمة الله، وصنيعة الرب، والتي تقول نعم لمشيئة الله، المنعم عليها، التي هي لا شيء من ذاتها ولكنها كل الأشياء بواسطة الله.  هكذا نرى ان مريم في العهد الجديد هي نموذج البشر المؤمنين الذين يقبلون عطية الله ولا يغلقون قلوبهم له، إنها مثال الكنيسة.28
 
  تبقى المسألة الأخيرة وهي مكانة مريم الشفاعية والوساطية في اللاهوت والممارسة الكاثوليكية والى حد ما في اللاهوت والممارسة الأرثوذكسية.  هذه مسألة شائكة إذا فُهمت على أنها تعني الصلاة إلى مريم العذراء للحماية وللخلاص وللتوسط مع ابنها، أو إذا فُهمت على أنها شريكة الفادي أو فاد شريك  (Co-redemptrix).
في مقالة لسيادة المطران جورج خضر “المسيح الوسيط”، نشرت في النهار ، كتب بكل وضوح: أن يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله الآب والبشر لأنه ابن الله وابن البشر.  وحده الاله المتجسّد يستطيع أن يكون وسيطًا بين الله والبشر، لأن الوساطة “هي الخلاص الذي تمّ مرّة واحدة وفي زمان واحد”.  هذا موقف لاهوتي مسيحي وانجيلي سليم لا يحتمل المساومة. إذًا يستنتج سيادته أن “لا معنى للقول الشائع في الغرب (الكاثوليكي) إن مريم مشاركة في الفداء”. لا فعل لمريم في الخلاص لانها بشرًا محضًا.  يصف سيادته الكلام عن مشاركة مريم في الفداء بأنه كلام “شعري” لا مكان له في اللاهوت المسيحي لانه “ينفي عن السيد حصرية الخلاص فيه”.
 
 لا مانع عند الإنجيليين من الصلاة مع مريم العذراء ولكن الصلاة إليها لأنها شفيعةٌ ووسيطةٌ، فهذا أمر غير مقبول كتابيًّا ولاهوتيًّا في التراث الإنجيلي على تعدد فروعه.
يرى الإنجيليون بأن يسوعَ وحده هو الجسرُ بين السماء والأرض، وبين الألوهية والإنسانية.  وحده الكلمة الذي صار بشرا باستطاعته أن يعرف فكرَ الآب ويفهم محدوديتَنا البشرية.  وحده الابنُ المتجسد باستطاعته أن يجسِّم حبَّ الآب ويضمَّ ضعفَنا إلى صدره.  أما مريم، فبغضِّ النظر عن دعوتها الهامة في حياتها الأرضية وعن امتيازها الكبير في الحياة السماوية، فلم تكن هي التي تألمت “مرة واحدة من أجل الخطايا” البارة “من أجل الأثمة لكي (تقرّبنا) من الله.” (1 بطرس 18:3)
ثانيا، يسوع مستمر في شفاعته لنا عند الآب وفي إعطائنا ثمارَ موته وتقدمة ذاته الوحيدة.  قدم نفسه ذبيحة عنا وهو يمنحنا ثمار فدائه.  ليس لمريم دورٌ في هذه المسألة حيث الابنُ يشفع لنا عند الآب.  (الرسالة الى العبرانيين).
ثالثا، إن المسيح قريبٌ منا ونتجاسر أن نتقدم إليه “لأنه قادر أن يرثي لضعفاتنا” وهو مجربٌّ في كل شيء مثلنا بلا خطيئة (عب 15:4): إذن نتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة وعونا في حينه (عب 16:4).  يسوع لا يشفع بنا ويتشفع لنا فقط بل يشعر معنا أيضا.
 
ماذا يمكن ان تعني مريم العذراء للإنجيليين؟
لعلنا بسبب غيرتنا على الإنجيل قد تجاهلنا، نحن الإنجيليين، مريمَ العذراء كثيرا.  لكنها لعبت دورا هاما في خطة الله الخلاصية فهي التي اختيرت لتحملَ الكلمةَ الإلهية. إن حثّ الإنجيليين على إيلاء العذراء مريم اهتماما أكبر أمرٌ مستحب وضروري. فكما أن الكنيسةَ الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية تأثرتا إيجابا بتشديد حركة الإصلاح على الكتاب المقدس ومركزيته، لأنه الشاهدُ الأولي لكلمة الله، هكذا أيضًا ينبغي على الإنجيليين أن يتعلّموا من الكنيستين الكاثوليكية  والأرثوذكسية تكريم العذراء والتأملَ بشخصها ومثالها ومكانتها في عمل الله الخلاصي، فهي أيضا إناءٌ لكلمة الله وحاملة له. الكلمة الإلهية أتتنا بواسطة مريم وتأتينا بواسطة الكتاب المقدس.
 
إنها الأولى في التاريخ التي رحبت بالكلمة وقبلتها في حياتها وفي أحشائها وهي على رأس الخطاة المخلصين، المبررين بالنعمة بواسطة الإيمان بالمسيح.  مريم ذاتها قالت: “تبتهج روحي بالله مخلصي” (لوقا 47:1)
وهي مثال الاستجابة لله.  من المؤسف أن المغالاة في مسألة مريم أشاحت بالنظر نحو التأمل في دورها في التعاون في الخلاص (وكأن الإنسان يشارك في عملية خلاصه!)، بينما من الواضح في الإنجيل ان مريم هي مثال التعاون في الخدمة والفضيلة.  “هوذا أنا آمة الرب.  ليكن لي كقولك” (لوقا 38:1) يجب ان يكون عنوان حياة كل مسيحي.   إنها حقا مثال للتواضع، وهذا يعني أنها لا تنتقص من رسالة ابنها وعمله الذي لا يثمن.  فلنتَّبع قولها حين أشارت إلى الخدام في عرس قانا الجليل: “مهما قال لكم فافعلوه” (يوحنا 5:2).
 
ومريم يمكن أن ينظر إليها الإنجيليون أيضا على أنها رمز الكنيسة، كما قال أبو الإصلاح مارتن لوثر. وأود أن أختم بكلمات قٌس إنجيلي معاصر عن مريم مثال الكنيسة كتبها مخاطبا الرب يسوع:
 
          “على مثال كنيستك حيثما كنت كانت معك، وقد لازمتك من مذودك إلى صليبك. فلا المجوس استطاعوا أن يلهوها عن المذود ولا الجنود أن يبعدوها عن الصليب.
          …سيظلّ أجمل أدوارها وقوفها قرب صليبك، ستظلّ عظمتها الحقيقية تنبع من جرأتها على البقاء واقفة عند قدميك.”[26]

***********************
[1]    كما وردت في: H. Oberman, “The Virgin Mary in Evangelical Perspective” The Journal of Ecumenical Studies 1 (1964), p. 273
 [2]  الترجمة للكاتب على أساس النص اليوناني الموجود في Denzinger – Schoenmetzerِ (DS), Enchiridion Symbolorum Definitionum et Declarationum de rebus fidei et morum.  editio XXXVI, # 301.
     [3] انظر Gritsch, p. 26
     [4] انظر  TRE vol. 22, p. 135وأيضا Second Helvetic Confession، الفصل الحادي عشر حيث يعلن الأيمان المصلح صراحة بأن الكنائس المصلحة تقبل بعقائد المجامع المسكونية الأربعة الأولى.
[5] كالفن قبل تعليم المجامع القديمة حول الكريستولوجيا: انظر TRE vol. 22 p. 136 وأيضا كتابه Institutes IV, IX
[6] انظر: Gritsch, The One Mediator, p. 179
 [7] إن الشرح اللاهوتي الذي يلي معتمد الى حد كبير ومكثف على كتاب ماكس توريان، مريم أم الرب ورمز الكنيسة (بيروت: دار المشرق، 1992)، ص 85-87.
[8]  كارل بارت، اللاهوتي الإنجيلي الكبير، أكّد أن عبارة “والدة الإله” ذات معنى وضرورية كقول كريستولوجي مساعد (auxiliary) فهي تحمي إنسانية يسوع من هرطقة الظاهرية (docetism) بإصرارها على انتماء يسوع الى البشر،  كما أنها تدحض النسطورية بإصرارها على وحدة شخص يسوع المسيح، ابن الله وابن الإنسان.  إنها تقول بأن الذي حملته مريم كان ابن الله ذاته وليس كائنا آخر. Church Dogmatics I/2 1952
[9]     إن ما يبرر استخدام عبارة “والدة الإله” لاهوتيا هو المبدأ ذاته الذي يسمح للرسول بولس بأن يقول إن اليهود “صلبوا رب المجد” (1كورنثوس 8:2): بما أن المخلص هو شخص واحد وفاعل واحد فهو حامل كل الصفات الإلهية والإنسانية.  إذا كان مسموحا أن يقال أن الله صلب، فبالمنطق ذاته يمكن أن نقول بأنه ولد، وتالياً فإن مريم هي والدة الإله.
     [10] انظر ماكس توريان، مريم أم الرب… ص 28
[11]  كارل بارث يؤكد انه في ضوء لوقا 43:1 وغلاطية 4:4 لا يمكن اعتبار “والدة الإله” قولا غير كتابي: انظر Church Dogmatics I/2, p. 140                                                                                                                   
      [12] لموقف لوثر انظر:  E. Gritsch, The One Mediator, The Saints and Mary.  Lutherans and Catholics in Dialogue VIII Ed. H. G. Anderson et al. (Minneapolis:  Augsburg Fortress, 1992), p. 239
         ولموقف أولريخ زوينغلي انظر:  M. Heymel, Maria entdecken (Freiburg: Herder, 1991), p. 26
      ولكالفن انظر: .Heymel, p. 28 في شرحه لمتى .25:1 لم يشجع كالفن المؤمنين أبدا على التنظير في مسألة بتولة مريم الدائمة.
[13]   لا يستطيع الإنجيليون ان يعتبروا تعليما ما مُلزما للعقيدة إذا كان الكتاب المقدس لا يحتويه. لذلك فالإنجيليون غير ملزمين بالاعتقاد ببتولة مريم الدائمة مع أن المجمع الخامس (553) أكدها وبعض الاعترافات اللوثرية تضمنتها.  يقول لوثر في هذا المجال: “يجب ان يكون واضحاً دائما بأننا هنا نتحدث عن كرامة المسيح وليس عن مريم، وإذا كان ثمة قول مريمي لا ينص عليه الكتاب المقدس فلسنا ملزمين أن نعتقد به أو نكرز به.  التفكير بلا ضريبة، ولكل أن يفكر ما يشاء ولكن غير مقبول أن نجعل من هذا الأمر (بتولة مريم الدائمة) بند إيمان Theologische Realenzyclopedie (TRE) vol. 22, p. 139.
[14]  النص العربي هو ترجمة للكاتب من الإنكليزية كما وردت في:  The Church Teaches.  Documents of the Church in English Translation.  (B. Herder Book Co., 1955), p. 208, # 510.
       [15] المصدر ذاته: p. 213, # 520
      [16] المصدر ذاته: p. 213, # 519
      [17] المصدر ذاته: p. 212, (Preface)
      [18] انظر H. Grote, TRE, vol. 22, p. 135
      [19] انظر The One Mediator, p.40
     [20] انظر Mary in the New Testatment.  Edited by R. Brown et al. (Philadelphia: Fortress Press, 1978), p.  288f.           
      [21] انظر Obermann, p. 290
[22]      كما وردت في Heymel, p. 28
  [23] المصدر ذاته.
  [24] انظر Heymel, p. 28-30
[25]      Oberman, p. 90
 
[26] جان دي سوسير،” العذراء رمز الكنيسة”، مقالات…، ص  .31 ، 36.

اترك تعليقاً