كل ما أرغب به في الميلاد (القس أديب عوض)

     يجد ولداي – هيفاء وباسم – صعوبةً كبيرة كلَّ عيد ميلاد في اختيار هديّة ترضيني؛ ويقولان لي بمرارة: دادي، إنتا شخص مش معقول … لماذا ينعتانني بِ “المش معقول”؟ لأنني أصرّ على معرفة الهديّة مسبقاً؛ والسبب أنّ “عندي كل شيء أحتاجه، وبوَفْرَة”، كما أجيبُهما على إلحاحاتهما.

     لكن، هناك هديّة واحدة أحتاجها، وأحتاجها 365 يوماً في العام، وأعتقد أنكم جميعكم تحتاجونها! هديّة عيد ميلاد 2018 التي أريدها هي “النعمة”.

     “النعمة”. يسمع اللاهوتيّون بيننا هذه الكلمة، ويردّدون: ههه! “النعمة” … عطيّة الله المجانيّة من غير استحقاق (عطيّة مجّانيّة – من الله – لا أستحقّها). تعريف جيّد، لا نجده – بعناصره المسيحيّة – في معاجم اللغة. لكنّ “النعمة” التيأفكّر في نوالها أقلُّ درجة من هذه … وأكثر بساطة. أحتاج إلى نعمةِ الأصدقاء والجيران والأخوات والإخوة في المسيح.

     لماذا “النعمة”؟ … بصراحة! لأنني، في مشوار حياتي الطويل، رأيت ما يشبه تجفيفاً مرعباً لمنابع “النعمة” في عالمنا ومجتمعاتنا؛ إنها تتقلّص أكثرَ فأكثرَ فأكثر. هل لاحظتم هذا؟ يا إلهي! لا أثر للكلمة في معاملاتنا وعلاقاتنا، اللهمّ إلّا عندما تقدّم مكاتبُ الرهن والمصارفُ شيئاً من “النعمة” في مضارباتهم وتنافساتهم، وحين يشتدّ الضغط على العملة؛ غير ذلك لا أثر للكلمة. نحن مجتمع يريد ما يريدُ، ومتى يريدُ، وبالطريقة التي يريدُ … ولتكن السماء في عون مَن يجرؤُ على إزعاجنا ولو عن غير قصد! في المجتمع، إن لم يُرضِ أحدُهم توقّعاتِنا، مصيرُه الطرد أو الملاحقة؛ إن لم يفلح أحدُهم في الخضوع لنا، مصيرُه الابعاد والشرشحة! قد ينظر التاريخ إلينا كمجتمعٍ متحضّر (وهو أمرٌ تحوم حوله الشكوك)، لكننا أضحينا مجتمعاً “مش كتير” متحضّر!! فأين هي “النعمة” اليوم؟

     بودّي لو أستطيع أن أقول إن الجواب على سؤالي هو في الكنيسة! في الواقع، من المفترض أن يكون الجواب في الكنيسة؛ لكن الكنيسة غالباً ما تعكس حال المجتمع، بدل أن تعكس الحال التي يجب أن تعكسها؛ وهكذا تغدو الكنائس أحياناً غير “متحضّرة” هي الأخرى. قرأتُ خبراً في إحدى النشرات الدينيّة (في الولايات المتّحدة) بعنوان “الخلافات تمزّق كنيسة …. في بلدة …”، وهذه ترجمتُه:

لن يكون هناك برنامجٌ ميلادي في كنيسة ……. هذا العام. لا إكليل صنوبر على باب الكنيسة؛ لا طفل في المذود هذا الميلاد. شاخصة اسم الكنيسة مغطّاة؛ اسمُ الراعي مشطوب. لم تمضِ بضعةُ أشهرٍ على إعادة ترميم الكنيسة ذات السقف القرميدي الرمادي الجميل، لكنّ الصراعات أنهكت أعضاء الكنيسة لدرجة أن الراعي صار يُقاطَعُ بالأسئلة والاستفزازات عدّة مرات أثناء العظة، وتُمرَّر صينيّات التقدمة أكثر من مرّة لصالح الأفرقاء المتخاصمين؛ كما اضطُرَّ البوليس للتدخّل أكثر من مرّة عندما كان الجدال يحتدّ، ليفصل بينهم. منذ أسبوعين كانت الكنيسة على موعد مع تمثيليّة ميلاديّة من تقديم الأطفال، لكنّ قاضي الناحية … أمر بإغلاق الكنيسة بسبب بروز “تهديد حقيقي لسلامة المشاركين والمجتمع”.

على الأرضِ السلام، وبالناس المسرّة … ها، ها، ها!

صدّقوني، في مشوار حياتي الطويل عاينتُ أكثرَ من شبيهٍ في كنائسنا لِما حدث لهذه الكنيسة في الولايات المتّحدة!

عجباً، ماذا حلّ بِ “النعمة”؟! آخرون أيضاً يسألون السؤال ذاتَه.

     حاوِلوا أن تكتبوا عبارة “انهيار المجتمع” في محرّك غوغل، وستُذهَلون لعدد المقالات التي لا تُحصى عن حقيقة تفكّك المجتمعات، وأسباب ذلك، واقتراح الحلول … وهاكم واحدة من المقالات التي وجدتُها – لا على التعيين، من بين المئات المتوافرة:

والناظر إلى الشأن الاجتماعي حالياً يقرأ عناوين ساخنة تعكس حالة من التفسّخ الاجتماعي بعد انتشار الجريمة داخل الأسرة الواحدة، أو على نطاق المجتمع ككل. هذه الجرائم أصبحت تحمل معها خطورة الابتعاد عن الالتزام بالقوانين، فضلاً عما تشكله هذه الجرائم من خلخلة في بنية المجتمع، وتفكيك في نسيج الأسرة الواحدة، وهو ما يسبب انزواءً لثقافة التسامح، وتغييباً لروح الحوار، حتى أصبح استخدام العنف الاجتماعي هو السبيل لحل الخلافات؛ وآثاره طالت الإنسان والممتلكاتِ وأمنَ الوطن، واستمراره يؤدي إلى تراجع سلطة القانون ويؤثر على هيبة الدولة التي هي مصلحة أساسية للجميع.. لذلك لا بد أن تتعاون جميعُ الجهات ذاتُ العلاقة للقضاء على هذه الآفة، لأن استمرار ذلك سوف يؤدي إلى تشويه الوجه المشرق لمجتمعنا الطيب. ويتم ذلك من خلال تشخيص دقيق للأسباب، ووضع الحلول العملية الصحيحة لها، وتنوير وتثقيف الناس بأننا نعيش في دولة يسودها القانون كوسيلة حضارية لحل جميع النزاعات، وعلى الجميع الابتعاد عن شريعة الغاب.

     شخصيّاً، بتمنّالهم من قلبي النجاح! لكن، مهما كُتِب وقيل عن طرق علاج هذه الظاهرة … نحن بحاجة إلى إعادة اكتشاف “النعمة” بمفهومهاالمسيحيّ تحديداً … وإلّا!

     إنّ قصة ميلاد الطفل يسوع هي في صُلب مفهوم “النعمة” الإلهيّة، بل أساسُها وبِطانَتُها؛ لأنّ تجسّدَ يسوع المسيح في عالمنا منذ أكثر من ألفَي عام هو عَرَبونُ نعمةِ الله لنا – من دون استحقاق، وتأكيدٌ لها، وكلمة الله واضحة بهذا الخصوص. في الروزنامة الكنسيّة ليوم الميلاد لهذا العام قراءات، الأساسيّة فيها هي القراءة من لوقا 2؛ لكن أيضاً قراءة قصيرة من الرسالة إلى تيطس، حيث يكتب الرسول بولس “لأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ اللهِ الْمُخَلِّصَةُ، لِجَمِيعِ النَّاسِ” (2: 11). نعم، “النِعمة” هي روحُ الميلاد وجوهرُه!

     قال أحدُهم، المحبّة تشبه الأرغفةَ الخمسة والسمكتين – لا يظهر تأثيرُها إلّا عندما تُوهَب/تُقَدَّم. يصحُّ هذا القول على “النعمة” أيضاً. من المؤكَّد أننا سنتمتّع بمجتمعٍ مليءٍ أكثر بمظاهر “النعمة” إنْ قمنا، نحن الذين في الكنيسة قد قبِلْنا نِعمةَ الله في المسيح، بتقديمها إلى العالم، والحياة بموجبها؛ وستُثمِرُ فرقاً شاسعاً حيثما وُجِدنا.

     أثناء رعايتي لإحدى الكنائس، اعتدتُ، بعد ظهر كل يوم خميس، على المرور على المأوى، لآخذ إم توفيق في سيارتي إلى جمعيّة السيّدات. مرّةً نسيت أن أمر على إم توفيق؛ ولم أفطن إلّا في اليوم التالي؛ فقصدتُ المأوى، وقبل أن أعتذر من إم توفيق، بادرتني بالكلام: “لا تِعتَل همّ، يا قسيس؛ كانت للخير. أصلاً ولا مرّة نزلت عَ باب المأوى وانطرتك. قعدِت مع هالصبايا الختياريّة، وقلتلُّن هيدا وقت جمعيّة السيّدات عِنّا في الكنيسة؛ وهَيْئتو قسيس أديب – الله يكون بعونو شو مسؤوليّاتو كثيرة – جَدّ عليه شي ما قدر يجي. فافتحت كتابي المقدّس وحكَيتلّون درس الأسبوع الماضي وصلّيت، ورتّلتلّون ترنيمة يا ترى أيُّ صديقٍ. شو انبسطو، يا قسيس؛ قالولي منيح ما إجا القسيس”. ترقرقت عيناي بدموع “النِعمة” المسيحيّة، وقلتلها، “يا إم توفيق، رجّعتيني شَبّ!”

     … هكذا هي “النعمة” تمنحُنا، وتمنح العالم، “حياةً أفضل“.

     هذا ما أريده هديّة لعيد الميلاد، لي ولكم، هذا العام – “النعمة”. أريد أن أكون حاملاً لنعمة المسيح، في أقوالي وأفعالي، إلى كل من ألتقي بهم/بهنّ. وهذا أصلّيه من أجلكم أنتم أيضاً، لأننا جميعاً بـــــِ “النِعمة مخَلَّصون”؛ وبـــــِ  “النعمة” يخلص العالم. يقول بولس: “لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، أُعْطِيَتْ هذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى” (أف3: 8).

أليس هذا ما رامَ إليه الربّ حين قال: “أنتم نورُ العالم … أنتم ملحُ الأرض”!!!

نُصلّي:

أيّها الآب السماوي؛ غالباً ما تخلو أقوالُنا وأفعالُنا من مظاهر “النعمة” تجاه بعضنا البعض. إننا نعرف هذا، ونشعر بالأسف عليه. أعِنّا لنحملَ نعمتَك الفائقةَ الوصف في ميلاد ربِّنا يسوعَ المسيح إلى معارفنا وأعمالنا ومجتمعنا. باسمه نصلّي – آمين.

القس أديب عوض

رئيس تحرير النشرة السابق، المدة: 2008-2017

One thought on “كل ما أرغب به في الميلاد (القس أديب عوض)”

اترك تعليقاً