كنيسة الخطأة (المطران جورج خضر)

عرّف المصلح البروتستانتي الكبير الكنيسة بقوله إنها جماعة المؤمنين. عند القديس أفرام السرياني تعريف أدقّ، وهو أنها كنيسة الخطأة الذين يتوبون. هذا يتضمّن أننا جميعاً خطأة وأن بعضنا يتوب. أما تعريف بولس الرسول، وهو أدقّ منهما كليهما، أنها جسد المسيح. إنه هو رأس الجسد المتكوّن منه والنازل منه؛ وهذا يستتبع أن ما نسميه الكنيسة كيانُهُ المطلّ على التاريخ. أنت من الكنيسة إن سكنك المسيح بمواهب روحه. هو إذاً يعرف من هم له، ونحن نعرف بعضنا بعضاً بما يبدو، أي بالمعمودية ومشاركتنا في المقدسات.
من هذه الزاوية ليست الكنيسة مؤسسة قائمة على تراتبيّة درجات أو مناصب. هي حياة في المسيح، كما قال الأب سرجيوس بولفاكوف العظيم. المنظور في الزمان والمكان مجتمع مسيحيين، تراكم مسيحيين، وهي رؤية في عالم الاجتماع، أي ما يسمى في لبنان طائفة قابلة أن تصير كنيسة. إذاً هذه الطائفة كانت تتحرك بالتوبة؛ أي إذا كانت تسير نحو مجد الله.
أنا وأنت نرجو أن نصبح من الكنيسة. وسيقول الله لك ذلك في اليوم الآخر. بانتظاره نحب بعضنا بعضاً أو نسعى، وإن لم نحب نبقى جماعة من الدنيا، أي من السياسة، وليس لنا نصيب مع المسيح وليس هو نصيبنا.
لذلك ليس في الحديث عن الكنيسة مكانة للعدد ولا للمال ولا للأوقاف. وإن يعد المسيحيون حوالي مليارَي نسمة فهذا من باب علم الاجتماع، وليس من باب اللاهوت. المسيحية نوعية وجود. في مجال الحق ليست الأجساد شيئاً. إلى هذا ليست المسيحية عائلات ولا قبائل ولا رعايا منظمة إكليروسياً وعواماً؛ هي الروح القدس فاعلاً.
المسمّون مسيحيين بناء على معموديتهم فقط هشاشة، لأن كل ما كان من العالم هش. المسيحيون ليسوا من هذا الدهر؛ إنهم من الدهر الآتي، إذ وهبهم ربّهم الـمُلْكَ الآتي، كما يقول يوحنا الذهبي الفم في قداسه. لذا لا معنى لقول الناس إن موقف المسيحيين أو بعض منهم هو كذا أو كذا في سياسة العالم. المسيحية ليس لها كلمة في السياسة. قد تكون ثمة كلمة لمجتمع القوم المسمّى مسيحياً؛ هذا لا علاقة له بيسوع الناصري. ما يحزنني في بلدنا أن الطوائف المسيحية تتحدث في السياسة. هذا غير ممنوع عليها. غير أن هذا كلام يخصها من حيث أنها مجموعة من الدنيا، إذ لم أسمع من زعيم من زعمائها أي ذكر للمسيح، ولم ألحظ استقاءً من الإنجيل.
يبقى أن هؤلاء المسيحيين غير الممارسين، أو الممارسين موسمياً، هم إخوتنا لكونهم معمّدين بالماء والروح، أو بالروح والنار. نهتم بهم اهتماماً بالغاً لأنهم خراف يسوع، علموا أم لم يعلموا. يستطيع الإنسان أن يجهل هويته. نقرأها له عنه، يحبها فينتمي. الإنسان ينتمي إلى الرب لا إلى بشر. لذلك نسعى معاً إلى إصلاح ما يعتبرونه مؤسسة لأنها حاضن. والعبادات حضن واللاهوت المستقيم الراي غذاء. كل شيء هو للإخوة. عطاؤنا لا يمنعنا من أن نتألم في الكنيسة. قد لا تكون بيئة موجعة مثلها، لأنك تتوقع الخطيئة في كل مكان، ونتوقع أن تكون الكنيسة مكان البر. الذين ترجو منهم متعة روحية لا يصل إليك منهم شيء، أو يصل ما يخيِّب ويحزن، ويعيدك هذا إلى عزلتك في جماعة الرب. الكنيسة في واقعها التاريخي بشر، والبشر واقعون في بشريتهم، وهي عند بعض نتنة. عندما يصوم الرجاء يبتعد الكثيرون، إذ كانوا يحسبون أنهم يعاملون من عليه صبغة الله، ولا تجد أية مسحة ألوهة على ناس فرضت عليك معاشرتهم، وإذا بقلبك يبكي في كل حين. الجهالة الدينية في أوساطنا المسيحية مريعة. كيف يحيا ألوف من الناس بلا أدنى اطّلاع على أبسط أركان العقيدة؟ والمصلّون، ماذا يفهمون من كلمات صلواتهم؟ هل نحن نجمع المؤمنين على مختلف أعمارهم ليذوقوا الإيمان ويحيوا به؟
هذا غياب. من المسؤول عن الجهلة؟ ومن المسؤول عن تشويه الإيمان وعن تفه الكلمات التي يعرض بها؟ الجهلة أيضاً أحباء يسوع. من يقول لهم إنهم كذلك؟ يقول لنا علماء الإحصاء إن مجموع تعداد المسيحيين منذ ألفَي سنة هو ستون مليار إنسان. هؤلاء كلهم ماذا عرفوا؟ ماذا فهموا؟ إلى أين وصلوا بالحب؟
إذا كانت كلمة الله هي الإيمان، أين كنا؟ أين نحن من الإيمان؟ بشر، بشر، بشر. المريع أنك لا تجد إلهاً على الأرض. من مصلحة الناس أن يحسبوا إلههم في السماء؛ إذا تربع فوق هو لا يحاسبنا هنا. “لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت” (1 كورنثوس 15: 32).
من يشعر أن انطباق سلوكه على الكلمة هو كل حياته، وأن ما دون هذه النوعية من الحياة لحم ودم ولهو وزينة؟ ولعل بعضاً يتحرك وكأن الطقوس تعطيه كل شيء. عندي أنه في هذا التراث المسيحي أو ذاك هي قمة الوجود أو دسمه أو فرحه. ولكن إذا سكرت في أشكالها، ولم تمتص معناها لتحوّلها إلى نار فيك، تصبح مائتة ومميتة. تُنهي فيك التوثب إلى أَحضان الرب، وتظلّ سجين هذه الأرض، وتدخل في السجن إذا تحوّلت الكنيسة عندك إلى مؤسسة. يهمك عددُ الناس في طائفتك وأموالُها وظهورُها اليوم، وأمجادُ أمسِها، ومقارنةُ مجدك بمجد الآخرين. منافسة الأمجاد أنظومة دينية عند بعض، بحيث تكون شاهداً على ما هو بشري. تجمع في ذهنك وأحاسيسك ما يمكن تسميته ديناً ولكنه ليس بالإيمان.
أجل، لا معنى بلا شكل، بلا صورة؛ وقد تكون الصورة غنية، وكثيراً ما ذقنا الصورة ولم نذق معناها. قد تتعصب مثلاً لما تسميه أنت الأرثوذكسية، ويكون شيئاً بشرياً بحتاً لا علاقة له بالمضمون، وتكون في الواقع مفتشاً عن نفسك، عن بقائك في هذا الدهر، ولا سعي فيك إلى ملكوت الله. أحياناً تصعد إلى أطر الصورة إذ فيها جمال. تركب لنفسك ديناً جميلاً ولكن ليس فيه روح الله، ونعلنك أرثوذكسياً إذ ينبغي أن تنال جنازة أرثوذكسية، تتوقع تأبيناً لك فيها، وتكون قد دخلت الكنيسة من بعد الموت ليقال عنك حسناً، ولا سيما إذا كنت من كبار القوم. هذا الدين الحسي يحمل في نفسه طيّات حياة وطيات موت ويشيّعك كثيرون أرواحُهم مائتة.
يبقى أن كل هذه الجماعات المهمّشة، المكسورة، هي من إخوتك. أنت لا تحكم على ما يبدو منها، ولا تدين، ولا تستعلي عليها. في رؤيتك إياها كَثِّفْ محبتك لها. تدعو لها بأن تعرِّج على الله حتى تحبه يوماً حباً كثيراً. تكون كانت بعضاً من كنيسة الخطأة. تصبح بعطائك كنيسة خطأة تائبين، وأنت لا تعلوها لأنك ربما عدت عن توبتك. غير أني موقن أن من عرف التوبة يوماً وسقط يعود إليها لأنه يعود إلى نكهة ما ذاقه قديماً في نفسه من جمالات الله.
(من أرشيف مجلة النشرة)

One thought on “كنيسة الخطأة (المطران جورج خضر)”

اترك تعليقاً