عندما تصل الأمور بنا فقط إلى خمسة أرغفة وسمكتين! (القس ابراهيم نصير)

“ليس لدينا هنا سوى خمسة أرغفة وسمكتين.” هذا ما قاله التلاميذ عندما قال لهم يسوع: “أعطوا [الجمع الكثير] شيئًا ليأكلوا”.
خمسة أرغفة وسمكتان! هل يمكنكم أن تتخيّلوا معي ذلك الموقف؟ يكتب أحد الرعاة في مذكراته فيقول عندما أعلمني طبيب الأورام الخبيثة أن أيام ابني الأكبر أصبحت معدودة، شعرت بأنّ كل ما أملكه لا يتجاوز الخمسة أرغفة والسمكتين.
كل يوم نواجه فيه أقنعة مزيّفة جديدة تخفي خلفها شخصيات، كل يوم تتلمس فيه تباعد اجتماعي وتمييز عنصري أو تمييز نوعي يشابه إلى حد كبير يوم أعلم يسوع بأنه لا يوجد إلا خمسة أرغفة وسمكتين. إنّ ارتفاع عدد العاطلين عن العمل (البطالة والبطالة المقنعة)، إنّ الأرقام المرعبة للذين يفقدون الوظائف، إن العشرات من الذين أستقبلهم كل يوم في مكتبي بالكنيسة لطلب المساعدة كلها مؤشرات بأن الكثير من الناس يعيشون حياة خمسة أرغفة وسمكتين. فأتساءل في ذاتي: هل الأرغفة الخمسة والسمكتين التي لدى الكنيسة يمكن أن تفعل أي شيء لتسديد حاجات المتألمين والنازحين والمظلومين والباحثين عن العدل والكرامة.
متى شعرت آخر مرة بأن هويتك هي خمسة أرغفة وسمكتين؟ ما هي الأحداث أو الظروف التي واجهتك فقلت في نفسك: “ليس لدي شيء سوى خمسة أرغفة وسمكتين؟” هل تستطيع أن توصف عواطفك في تلك اللحظة أو تخبرنا عن تلك الأفكار التي هاجمت رأسك في تلك الأوقات؟
في كل مرة تواجه حقيقة أنه ليس لديك إلا خمسة أرغفة وسمكتين، تشعر بالإرهاق بل بالعجز واليأس والإحباط وبأنك غير قادر بتاتًا على صنع أي فرق. تشعر أنه يُطلب منك أكثر بكثير مما تستطيع تقديمه أو تتعامل معه. هل تفوهنا بجمل كهذه: لا أعرف ماذا أفعل أو أقول، أنا حقيقة قلق ومقيد اليدين، أنا أشعر بالخوف والحزن، أنا منهك ولست قادر على تحمل المزيد، أشعر بأنه لا يوجد غيري ليقوم بمواجهة كل تلك التحديات، أشعر بأن النفق المظلم طويل ولا يوجد في آخره أي بصيص نور.
ذلك تماما ما اختبره التلاميذ في هذه القراءة. لقد حلّ الظلام، وينبغي أن نصرف كل هذه الجموع ليجدوا ما يمكن أن يسدد حاجتهم أو على الأقل ليملئوا بطونهم. لا يقتصر الأمر على أن التلاميذ يعتقدون أنهم ليس لديهم ما يكفي، بل بدأوا يعتقدون أنهم كأشخاص لا يمتلكون الكفاءة لمعالجة هذا الواقع. أنا لا امتلك الإمكانية المطلوبة لإحداث فرق وأنا في ذاتي غير مؤهل للتعامل مع الواقع الذي أواجهه.
هل يبدو ما أطرحه اليوم منطقيا عندك أو على الأقل اختبرته في حياتك؟ أنا واثق بأنكم جميعا تعرفون ما أتحدث عنه، أليس كذلك؟ ماذا علينا أن نفعل في أوقات الحياة التي تتحدانا ونحن ليس لدينا إلا خمسة أرغفة وسمكتين؟
اسمحوا لي أن أبدأ معكم اليوم أيها الأخوة والأخوات في المسيح يسوع بما لا يجب علينا فعله. أولا علينا ألّا ننتظر تدخّل الرب يسوع بطريقة سحرية لتتضاعف كمية الخبز والسمك. إضافة إلى ما سبق، ليست المشكلة هي في نقص الخبز والسمك. هناك أيضا الافتقار إلى الرؤية لحياتنا وللجمع الكبير الذي يلتف حولنا، وعدم امتلاك أية خطة روحية اجتماعية حقيقية للمستقبل. إنه نقص في القدرة على رسم صورة للواقع القادم مبنية على قراءة سليمة للتاريخ وفهم علمي للحاضر. إنه تجاهل للآخر وعدم تعاطف معه، إنه غياب التحنن على الآخر وعلى الذات.
نحن بحاجة أن نتعلم أن نرى بطريقة جديدة. نحن بحاجة إلى عيون إبداعية وبصيرة خلاقة. هذا تماما ما قاله الرب يسوع عندما توجه نحو تلاميذه بالقول: “16فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا».” إنه يطلب منا أن نغير العدسة التي نرى من خلالها، ونكتسب رؤية جديدة، ونرى بعيون جديدة. فهو يرى ويثق بأننا موجودون بالفعل ولدينا ما يكفي لإطعام الجمع الكثير. ربما هذا ما نحتاج إلى رؤيته والثقة به تجاه أنفسنا وبعضنا البعض.
لذلك أريد أن ننظر إلى إنجيل اليوم (متى 14: 13-21) بطريقة مختلفة قليلاً عما ننظر إليه عادةً. إن هذا الحدث هو ليس حدثًا مرتبطًا بأمعاء خاوية، بل هو حدث مرتبط بعيون ثاقبة؟ هذا الحدث مرتبط بعيون الإيمان أكثر من إملاء البطون. هذا الحدث مرتبط بفعل الرحمة والتحنن أكثر من عناصر الخبز والسمك.
الرب يسوع وتلاميذه رأى الجمع الكثير نفسه، لكنهم تفاعلوا مع ما قد رأوا بشكل مختلف تمامًا. اليوم الرب يسوع وتلاميذه يجسدان طريقتين متباينتين للرؤية.
• التلاميذ: “15وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اِصْرِفِ الْجُمُوعَ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَامًا».”
• الرب يسوع: “16فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا».”
يرى التلاميذ الحشود ويركزون على الموارد الموجودة خارج أنفسهم. إنهم يحاولون معرفة كيفية إطعام أكثر من 5000 معدة فارغة بخمسة أرغفة خبز وسمكتين. الرياضيات ليست إلى جانبهم. وهم على حق في قولهم: “ليس لدينا هنا سوى خمسة أرغفة وسمكتين”. لا يوجد ما يكفي. وربما لن يكون هناك ما يكفي أبدًا طالما أننا نجري الحسابات.
لكن يسوع يركز على الموارد الموجودة في داخله. يرى الجمع الكثير فيتحنن ويترأف. إنه يختبر حاجتهم على مستوى الجهاز الهضمي. إنه يشعر بجوعهم كأنه جوعه. إنه يصنف ذاته كأنه واحد منهم. أحشاؤه في داخله تتفاعل وتتحرك وتتألم معهم. إنه عمق وسمو في ردّة فعله تماما كما لو كان يشعر بصوت الجوع في معدته مع الجياع، تماما كما كان يشعر بالأنين في المرض مع المخلع والأبرص، تماما كما لو كان يشعر بالبكاء والحزن بسبب الخسارة في موت مع لعازر وأرملة ابن نائين. إن عدسة الرحمة هي العين التي يرى بها الرب يسوع.
إن تحنّن الرب يسوع المسيح يسمح له برؤية الأرغفة الخمسة والسمكتين ليس في إطار المحدودية بل في إطار الإمكانية. الرب يسوع لم يقم أبدا بأيّة عمليات حسابية أو معادلات رياضية، بل امتلك رؤية تصنع من المحال حقيقة ممكنة وواردة. هو لم يتطلع لحلول تبعد عنه المسؤولية لذلك رفض إرسال وإبعاد الجمع الكثير. على النقيض من ذلك، إنه أعطاهم المساحة المطلوبة ليكون معهم. الرب يسوع رأى هذا الجمع الكثير بتحنن قلبه وليس بنظرة عينه.
أتساءل ما الذي يمنعني أنا وأنت من أن نرى بقلوبنا ونعيش مثل الرب يسوع بتحنن مع الذين يحيطون بنا؟ ماذا لو بدأنا نرى مثل الرب يسوع؟ ماذا لو رأينا بأعين قلوبنا؟ ماذا لو كانت الرحمة هي العدسة التي نرى من خلالها بعضنا البعض؟
عندما نرى جوع أو ألم أو احتياجات شخص آخر بعين التحنن والتعاطف، نعيد النظر في أولوياتنا، نكتشف احتمالات وإمكانيات جديدة، وعندئذ تتضاعف مواردنا. إن التحنن والتعاطف لدى الرب يسوع يدعونا إلى أن نكون وكلاء عن هذا الآخر الجائع والعاري والمتألم والحزين والمريض والوحيد والمهمش والمنبوذ، تحنن يسوع عاينا يلزمنا بأن نتواصل معهم، بل ونحمل مسؤوليتهم ليكونوا أولوية حقيقية بالنسبة لنا.
هذا يعني أن نعطي لهؤلاء المساحة ونلازمهم ونقول لهم نعم حتى قبل أن نحصي أرغفة الخبز والأسماك خاصتنا. هكذا يريد الرب يسوع من أن نعيش، أتوافقون على ذلك؟
اليوم نحتاج أن أثق أن أرغفتنا الخمسة والسمكتين – نعمة الله المجانية التي بين أيدينا – تكفي وأنها ستحدث فرقاً ملحوظا. ينبغي لنا ككنيسة أن ندرك بأن ما في أيدينا هو كافي وأننا ككنيسة وكأفراد نستطيع بنعمة المسيح أن نصنع فارقا. نريد أن نرى كنيستنا، العالم المحيط بنا، وأنفسنا كأفراد من خلال عدسة الرحمة والتحنن. ونريد أن يكون سلوكنا مؤسس على هذا التعاطف وهذه الرحمة وهذا التحنن.
ما هي رؤياك الراحمة لسورية ولحلب اليوم – للنازحين والأرامل والأيتام والمرضى والمهمشين والمنبوذين والعاطلين عن العمل؟
ما هي رؤياك الراحمة لسورية ولحلب اليوم – للموظفين المحدودي الدخل في القطاع الخدمي والصحي والتعليمي؟
ما هي رؤياك الراحمة لسورية ولحلب اليوم – لأولئك الذين يتخذون القرارات عندما لا يكون هناك ما يشير إلى صوابتها ودقتها؟
ما هي رؤيتك الرحيمة لأولئك الذين فقدوا وظائفهم وشركاتهم؟
ما هي رؤياك الراحمة لسورية ولحلب اليوم- للمرضى والمحتضرين؟
ما هي رؤياك الراحمة لسورية ولحلب اليوم – لأولئك الذين تحبهم والذين لن تعرفهم أبدًا؟
ما هي رؤياك الراحمة لسورية ولحلب اليوم -لأولئك الذين هم مثلك وأولئك الذين هم ليسوا على توافق معك بل حتى أنهم يعادوك؟
ما هي رؤياك الراحمة لسورية ولحلب اليوم – لنفسك واحتياجاتك؟
ماذا تطلب منك الرحمة اليوم؟ كيف ستسلك حيال هكذا رحمة؟ مع من ستتواصل اليوم ولمصلحة من ستتحدث؟ انظر بتحنن قلبك وسترى من أنت ومن هو ذاك الآخر. امتلك عين جديدة ليمكن لك أن ترى سورية وحلب وكيف ستصبح.
ماذا يمكننا أن نفعل أنا وأنت بأرغفة الخبز الخمسة والسمكتين؟ لن نعرف أبدًا حتى نبدأ في إطعام الحشد الكثير. وقد نتفاجأ بما نحن قادرون على فعله. دعونا نتوقف عن القيام بالحسابات والرياضيات، ونبدأ بتجهيز الطاولة أو المساحة للجميع. آمين

اترك تعليقاً