عندما تخذلنا الحياة (القس مفيد قره جيلي)

هل شعرت يوماً أنّ الحياة خذلتك؟ هل تملّكك يوماً إحساسٌ بألمِ الفشل الذي لم يكن بسببك بل بسبب العوامل المحيطة بك؟ لا بد وأنّ أغلبنا سهر ليالٍ وهو يذوق فيها طعم مرارة الإحساس بخيبة الأمل. لكن أصعب الخيبات هي عندما يسعى الإنسان لعمل إرادة الله ويفشل! عندما تكون سعادته مرتبطة بمجد الله في خدمة الإنسان ومع هذا لا يصل إلى مراده، فيُصاب بخيبة الأمل ويسيطر الإحباط على النفس.
ودون أدنى شك، من يشعر أنه لطالما سار مع الله ولأجل الله، قد يوجّه اللوم لله معاتباً إياه عند خيبة الأمل. فكثيراً ما نعاتب الله بصوتٍ مرتفعٍ أو منخفض، سواء اعترفنا بهذا أم لا، كثيرون منّا وجّهوا كلمات عتب إلى الله معتقدين أنه وراء خيبة أملهم.
إنّ واحدة من أكثر العوامل المُسبّبة لهذا الإحساس هي محدودية معرفتنا بإرادة الله. في الكثير من الأوقات، وبسبب محدوديتنا هذه المجبولة بالغرور، نعتقد أننا ندرك عمق الله ونتصرف على هذا الأساس، فنُصاب بخيبة أمل كبيرة.
دعونا نُلقي نظرة على واحدة من قصص الكتاب المقدس، والتي تتعامل مع مشاعر خيبة الأمل الناجمة عن عدم التناغم بين رؤية الإنسان ورؤية الله، بين إرادة الإنسان وإرادة الله. هذه القصة هي الرسائل الشفهية التي جرت بين يوحنا المعمدان عندما كان في السجن وبين يسوع. يُخبرنا نص متى ١١: ٢- ٦ (راجع أيضاً لوقا ٧: ١٨- ٢٣) أن يوحنا المعمدان كان في السجن، وقد سمع عن أعمال يسوع، وبناءً عليه يُرسل اثنين من تلاميذه ليسألا يسوع شخصياً عما إذا كان هو المسيح الآتي إلى العالم أم لا. يؤكد يسوع أنه المسيح الآتي إلى العالم لكن دون أن يلفظ هذا حرفياً بل يشير إلى الأعمال التي كان يقوم بها: “العمي يبصرون، والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون” (١١: ٥). ما الذي يحدث هنا؟
يبدو أن يوحنا المعمدان كان لديه توقعات مُعيّنة عن الدور الذي كان ينبغي أن يقوم به المسيح، ويبدو أن هذه التوقعات لم تكن مطابقة لما كان يقوم به يسوع على أرض الواقع. فإذا ما عدنا إلى متى ٣: ١٢ سنرى أن يوحنا يصف الدور الذي سيلعبه المسيح بالشكل التالي: “الذي رفشه في يده وسينقى بيدره، ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه.” وهذا الدور الذي يندرج تحت عنوان الدينونة ما كان يسوع يقوم به، بل على العكس كان يساعد الناس على الخلاص من الدينونة ويؤسس ملكوت رحمة الله على الأرض “العمي يبصرون والعرج يمشون…”. يبدو أن أطروحة ملكوت الله التي نادى بها يسوع أجَّلت الدينونة إلى وقت آخر. وهذا كلّه مخالف لتوقعات يوحنا، الذي كان في السجن وكاد أن يخيب ظنه في المسيح ويعثر به ليشجعه هذا الأخير على إعادة النظر بأفكاره قائلاً له: “طوبى لمن لا يعثر في” (١١: ٦).
إن توقعات المعمدان عن يسوع كان لها أساس في النصوص المقدسة، لأنه كان يتحدث عن المسيح القاضي الديان وهو الأمر الذي كان يتوقعه اليهود ومن ضمنهم يوحنا (راجع مثلاً مزمور ٢: ٩؛ إشعياء ١١: ٤؛ ميخا ٥: ١). مع هذا، لم يكن يوحنا مصيباً مئة بالمئة، بل احتاج إلى تعديل بالأفكار، وبسبب انفتاحه على يسوع المسيح ولأنه توجه بتواضع إلى ليسوع ليسأله عن الحقيقة، فقد تلقى الجواب السليم قبل أن يخيب ظنه وهو في السجن، يستعدّ لمواجه الموت. وجواب يسوع أيضاً كان فيه إشارة إلى الكتب المقدسة التي تتحدث عن حالة الناس عند مجيء المسيح “حينئذ تتفتح عيون العمي وآذان الصم تتفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالإيل ويترنم لسان الأخرس” (إشعياء ٣٥: ٥- ٦).
تُعلّمنا هذه القصة درساً مهماً جداً عند التعرض إلى خيبة الأمل، خاصّة عندما تؤدي هذه الخيبة إلى العتب على الله. لأنّ هذه القصة تخبرنا أن المسيح كان يقوم فعلاً بالدور المنوط به واللازم أن يقوم به، لكن هذا الدور الذي كان مطابقاً لإرادة وطرق الله كان مخالفاً لتوقعات المعمدان. لذلك نحن أيضاً يخيب أملنا في كثير من الأوقات لأننا نتوقع دوراً خاطئاً لله أو دوراً صحيحاً لكن في توقيت خطأ، لأن دور الدينونة سيقوم به المسيح لكن في وقت لاحق (راجع مثلاً متى ٢٤: ٢٩- ٣١؛ رؤيا ٢٠: ٧- ١٥). لذلك حتى وإن كنا من المتعمقين في الكتب المقدسة، كما كان المعمدان، علينا أن نبقى منفتحين على حقيقة أن أفكار الله ليست أفكارنا وطرقه ليست طرقنا “لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي يقول الرب” (إشعياء ٥٥: ٨).
كما تُعلّمنا أيضاً أن نكون مستعدين للمفاجئات في الحياة. إنّ السير مع الله لا يعني أبداً أن لا يكون هناك تفاصيل تتعبنا وأحداث تخيب ظنّنا، كما في حال المعمدان الذي كان في السجن، والذي شعر أن رسالته كلها كانت في مهب الريح لأنه شك بأن يسوع هو المسيح الآتي. لذلك حتى عند خيبة الأمل، علينا أن نتسمك بما لدينا كمؤمنين، بأن الخواتيم ستكون دائماً بحسب إرادة الله، والتي ينبغي أن نكون دائماً مستعدين لقبولها بتواضع. آمين

اترك تعليقاً