تجريب إبن الله (القسيسة ماتيلد ميشيل صباغ)

تعلَّمت الكنيسة في انجيل متى المسيرة على ضوء تعليم المسيح، واعترفت بعزمٍ بسلطانهِ على الأرض كلّها إن كان مما عَلّمهُ الرب يسوع أو من خلال المعجزات التي قام بها، أو من خلال ما علّمتهم أعمال يسوع في أحداث الإنجيل.
في هذا النص الكتابي الذي لطالما تم عنونته بالتجارب الثلاثة أو تجارب يسوع في البرية، والذي أفضّل عنونته بـ “تجريب ابن الله”. هذا التجريب هو أساس هذا الحدث الذي يسرده لنا البشير لإظهار القصد الكتابي والعالمي لأهمية أعمال يسوع والإعلان بتحقيق هذا القصد الإلهي من خلال الحبكة السردية البسيطة والدقيقة.
فيحق لأي متأمّلٍ في الحدث أن يسأل: لماذا أُصعد يسوع بفعل الروح إلى البرية ليجرّب من إبليس؟ ماذا فعل يسوع في هذا التجريب؟ وفي العمق، ما التجربة التي على المحك والرابضة وراء التجارب الثلاث؟
دعونا نعود لبداية الكتاب المقدس، لآدم وحواء، للإنسان (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ.) رومية ٥: ١٢. لنرى التباين في المقارنة بين تجربة الإنسان في سفر التكوين وتجربة الرب يسوع الذي تعرّض تقريباً لذات التجارب.
فما ظروف تجربة آدم وحواء بالمقارنة مع تجربة يسوع؟
لقد تمت تجربة آدم وحواء عندما كانا يتمتّعان بالبذخ في جنة عدن. أمّا يسوع، فقد كانت تجربته في أكثر الأماكن المشؤومة والمهجورة، فمن سكنها عبر التاريخ هم الأفاعي والعقارب، فحتى الحيوانات الضاريّة رفضت العيش في برية اليهودية.
وفي حال آدم، فلم يكن وحيداً، بل كان له نظيرٌ معينٌ وهي حواء، فلقد رفض الله أن يكون آدم وحيداً مثلما يحصل عندما يتم تعذيب المجرمين بإرسالهم إلى عزلة مقطوعين عن كافة أشكال العلاقات البشرية. على عكس يسوع، فقد كان يسوع في عزلة تامة.
في التكوين، تمّت تجربة آدم وحواء أي تجربة الإنسان الأول وهو شبعان. على عكس يسوع وهو آدم الأخير والإنسان الحقيقي وهو متضورٌ جوعاً بعد ٤٠ يوماً وليلةً من الصيام القطعي.
وآخر تباين في المقارنة هو أن أول سقوط في حالة العصيان لم يكن أمراً اعتيادياً ومعروفاً، على عكس زمن يسوع فالبِّرُّ كان غائباً والعصيان كان أمرًا اعتياديًا، وما كان يسوع يفعله في التجربة لعمل عكس المعتاد عليه.
فهل يوجد تباين فقط بين الحدثين أم هنالك نقاط التقاء أيضاً؟ إن التشابه بين الحدثين وارد ويمتد أكثر من آدم وحواء، ليشمل حالة شعب الله في القديم (إسرائيل) وتفاعلهم مع التجارب التي خضعوا لها.
فبِلغة العهد القديم، إن التجربة هي العملية التي تدل على قدرة أحد الشريكين أو الطرفين المتعاهدين في الوفاء والثبات على العهد. وفيما يخص علاقة شعب الله مع الله في القديم فإن التجارب ستظهر مدى وفاء هذا الشعب تجاه عهده. وفي حالة ما قبل السبي، فلقد كانت التجارب تأتي للشعب من الله بشكل مباشر، بينما في حالة ما بعد السبي أصبح دور التجريب من ميزات المجرِّب أو المُغوي من دون نسيان أن المُجرّب نفسه يقع تحت سلطان الله (راجع أيوب ١- ٢، زكريا ٣: ١- ٢، ١ أخبار الأيام ٢١: ١).
وهنا في شهادة متى، فإن روح الله هو من يصعد يسوع إلى البرية بعد إعلان الله لبنوّة يسوع له في المعمودية (“وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ». متى ٣: ١٧) ليحصل أن يجرّب يسوع فيما يخص هويته كابن الله. وهنا نجد المجرب يستخدم هذا التعبير مرتين من ثلاثة لتكون نقطة ركيزة في هذا الحدث وهي: أيُّ ابنٍ هو يسوع لله؟
فما حصل مع آدم وحواء وبعدها مع شعب الله في القديم وبعدها مع الرب يسوع بعد المعمودية هو طرح سؤال: أيُّ ابن لله أنت؟ إنّه سؤالٌ يخص الهوية وسؤالٌ مصوبٌ سهمه باتجاه مصداقية كلمة الله. هو السؤال الذي فشل الانسان الأول وبعده شعب الله في الإجابة عنه بثقة وثبات.
فبعد انقضاء الأربعين نهاراً وليلة وكل الدلالات التي يحملها هذا العدد (٤٠) إن كان في تشابهه مع زمن ضياع شعب الله في البرية أو مع عدد الأيام التي قام موسى بالصوم فيها (تثنية ٩: ١٨) أو إيليا (١ ملوك ١٩: ٨). يتقدم هنا المجرب ليقوم بالفعل الذي يظهر القصد من إصعاد يسوع إلى البرية: إن كنتَ ابن الله!!!
لا يوجد جمهور في البرية، ولا على جناح الهيكل في المدينة المقدسة ولا على الجبل العالي، وبالتالي فإن قصد المجرب ليس بأن يقوم يسوع بمعجزة تحويل حجر إلى خبز أو الانتحار بقصد الإنقاذ فلا رائي للحدث ولا مجد يعلن في هذه الحالة. القصد هو أنه هل سيفشل يسوع مثلما فشل آدم الأول وكذلك شعب الله في القديم عندما جربوا في ثقتهم بمصداقية كلمة الله؟
عندما جرّب يسوع في جوعه أجاب ابليس “ان كنت أموت جوعاً فلن أضرب مصداقية كلمة الله بأنّي ابنه”. وعندما جرّب يسوع على جناح الهيكل أجاب ابليس “ان قفزت فإني أضع أبي في التجربة، ولكني لست مضطراً بأن أقفز لأعرف من هو أبي، فمن الواضح يا ابليس أنك لا تفهم في تفسير الكلمة المقدسة لتجربني من خلالها بينما أنا أعرف أنّي تحت جناح الرب أحتمي”. وعندما جرّب يسوع في صُلب خدمته الساجدة للرب بكل أشكال الطاعة التي جسدها حتى الصليب أجابه لإبليس “ان مجرد انحناء بسيط أمامك سيمنع عني الألم وويلات التعذيب، ولكن هذا بعكس كلمة الله التي أرسلني لأخدمها بأمانة واستقامة وإن أنّه لا يوجد أحد ليرى انحنائي لكَ، لكن المصداقية التي تعلمها كلمة الله هي الأساس، هي مصداقية مبنية على مصداقية كلمة الله التي أخدمها، وحدها”.
أجاب الرب يسوع ابليس مقتبساً الكلمة المقدسة من (تثنية ٨: ٣، تثنية ٦: ١٦، تثنية ٦: ١٣) ليكون هو الوحيد الذي يجسد حقيقة عيش هوية “ابن الله” وليدعونا لنأخذ من ملئه حتى نطيع كلمة الله ونثق بمصداقيتها في كل مرحلة مهما قست علينا الأيام والسنون.
في تجريب ابن الله، في هذا الحدث نسمع صوت الرسالة إلى العبرانيين تقول لنا “لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ” ٤: ١٥
نعم، سنجرب جميعنا وسنمتحن بنار، وستوضع هويتنا كأبناء وبنات لله على المحك، سنجوع وسنعيا وسيوضع نصب أعيننا ملذات وشهوات هذا العالم، وسنجرب فيما يخص إيماننا وثقتنا بوعود الله وبكلامه. دعونا أن نلتفت للمسيح وليس لآدم ولشعب الله، لنتعلم من المسيح ولنقيس أنفسنا على قياسه وليس على آخرين حتى لا نجد تبريرات لتقصيراتنا ولخطايانا بالمقارنة معهم. لنقارن أنفسنا فقط بالمسيح حتى نترجى أن نصل إلى ملء قامته هو فقط.
ماذا فعل يسوع في تجريب ابن الله؟ جسّدَ لنا ماذا يعني أن تكون ابناً لله بشكل حقيقي غير مشوه.
جُرِّبَ ليقول لنا “اثبت على كلمة الله، فكلمة الله كافية لتنال اكليل الحياة”.
جُرِّبَ ليعلّمنا أنه وحتى في وِحدتنِا الله يرى ثباتنا على العهد، فلنثبت في السر وفي العلن على كلمة الله ومصداقيتها.

اترك تعليقاً