
النصوص الكتابية: متى 10: 34-42، 1 كورنثوس 1: 18-25، فيليبي 2: 1-11
تحتفل الكنائس في الشرق في هذه الأيام بعيد رفع الصليب أو كما يسمى شعبياً بعيد الصليب الذي يعتبر مناسبة احتفالية خاصة ذات مكانة مميزة في الرزنامة الكنسية وفي الممارسات الشعبية المختلفة المرتبطة بها.
يرتبط هذا العيد (عيد الصليب) بروايتين عن حادثتين تاريخيتين قديمتين:
ترجع الأولى منهما إلى القرن الرابع الميلادي وتحديداً سنة 326م، وفيها تبدأ الملكة هيلانة أم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بحملة للبحث عن صليب الرب يسوع المسيح في أورشليم، وتقول القصة إنّ عمليات البحث توصلت إلى ثلاثة صلبان يشتبه أن واحداً منها هو الصليب الذي صلب عليه يسوع، فجاءوا بجثة ميت ووضعوها على صليبين منهما فلم يحدث شيء، لكن عندما وضعت الجثة على الصليب الثالث قام الميت من الموت، فعرف الباحثون أن هذا الصليب ليسوع فقاموا بإشعال النيران على قمم الجبال المتتابعة بقصد إيصال الخبر إلى الملكة هيلانة بأقصى سرعة.
أما القصة الثانية فتعود إلى القرن السابع الميلادي وتحديداً عامي 628-629م حيث تستعيد الإمبراطورية البيزنطية بقيادة الإمبراطور هرقل السيطرة على مدينة أورشليم من يد الفرس الذين كانوا قد احتلوا المدينة وخربوها ونهبوها قبل 14 عاماً، وكان الصليب الخاص بيسوع من جملة ما نهبوه. وفي العام 628 م، يستعيد الإمبراطور هرقل المدينة ويسترجع الصليب من يد الفرس. وبعد مرور عام أي في عام 629م يحمل الإمبراطور الصليب ويعود به إلى أورشليم ليركزه في موضعه على جبل الجلجثة، فهبّت المدينة لاستقباله والترحيب به وهو لابس الأزياء الملكية وحاملاً للصليب في موكب امبراطوري عظيم، لكنه على باب المدينة شعر – كما تقول الرواية – بقوة خفية تمنعه من دخول المدينة حتى أخبره بطريرك المدينة أن ثيابه التي يلبسها لا تتناسب مع فقر وتواضع يسوع المسيح، فيخلع الإمبراطور الأزياء الملوكية ويتابع المسير.
عيد الصليب ما هو إلا استرجاع لهاتين الحادثتين (من القرن الرابع والقرن السابع) ولكل المعاني الرمزية التي تحملها القصص المرتبطة بها والمروية عنها، لكن أهمية ومركزية ومحورية قصة الصليب لا ترجع إلى القرن الرابع ولا إلى القرن السابع بل ترجع إلى القرن الأول … إلى شخص الرب يسوع المسيح وإلى قصة تجسده وحياته في عالمنا.
ففي القرن الأول ولد الرب يسوع المسيح وعاش طفولته في منطقة الجليل الفقيرة والمهمشة، ومن هناك ابتدأت قصته وإرساليته.
عاش يسوع حياته متنقلاً من مكان إلى آخر ليحمل رسالة محبة الله، واقترابه من كل خاطئ، ودعوته للجميع حتى يقبلوا إليه ويشربوا من ماء الحياة الذي لا ينضب ويأكلوا من الخبز الحي الذي لا ينفذ.
عاش يسوع حياته وهو يعطي الأولوية للإنسان فوق كل طقس وكل تقليد يقلل من قيمة الإنسان معتبراً إياه مجرد خادم للشرائع.
عاش يسوع منادياً بمشروع ملكوت الله كمشروع يحقق للإنسان كرامته ويحفظ حقوقه ويصونه من أي انتهاك أو تعد أو ظلم.
رسالة يسوع كانت رسالة محبة صافية تبادر نحو المهمشين والمستضعفين والمنبوذين وتغير نوعية حياتهم وتقلب واقعهم نحو الأفضل، كانت رسالة محبة تقف بوجه كل شكل من أشكال المعاناة والقهر والظلم، وتفتح أمام الجميع باباً لعيش علاقة حقيقية فاعلة مع الله ومع الآخر أياً كان جنسه وأياً كان انتماؤه.
لم يكن يسوع مجرد حامل لرسالة محبة الله إلى العالم فقط، بل كان هو بشخصه تجسيداً لهذه المحبة، ولم يكن يسوع مجرد متكلم عن محبة الله بل كان هو حضور هذه المحبة في وسط العالم بشكل فاعل ومباشر وبدون وسائط.
لكن هذا العالم لم يقدر أن يقبل فيض محبة الله ولم يقدر أن يستوعبها أو يقبل بوجودها من الأساس، بل على العكس تماماً اصطدم معها مواجهاً إياها بكل عنف وكل قسوة.
قد اصطدمت محبة الله اللامتناهية المعلنة في شخص يسوع مع قسوة العالم وظلمه وبطشه وفساده وشره، لم يقدر العالم أن يتحمل هذا النوع من المحبة التي تقدم التنازلات والتضحيات والتخلي عن المكاسب في سبيل الآخر، لم يقدر العالم أن يتحمل هذه المحبة التي تدعو لإزاحة الأنا وإعطاء مجال للآخر كي يوجد ويكبر، ولأجل ذلك بعينه يقرر العالم أن هذا النوع من المحبة لا بد أن ينتهي ويموت فيكون الصليب.
على تلك الخشبة، خشبة الصليب يعرّي يسوع العالم بكل ظلمه وفساده وبطشه.
لم يتردد القادة والوجهاء بأن يحرضوا شهود زور بقصد التخلص من هذه المحبة، ولم يترددوا أن يتعاونوا مع السلطة الرومانية الظالمة فقط كي يضعوا حداً لقصة الحب الإلهي.
بيلاطس الوالي الروماني كان مقتنعاً ببراءة يسوع لكنه لم يكن مستعداً أن يدافع عن العدالة طالما أن هذه العدالة تهدد عرشه ولسان حاله يقول: “بدكن تصلبوا البريء، اصلبوه، المهم ما يوصل خبر لروما أنو في اضطراب بولايتي “
إلى هذا الحد يُظهِر الصليب فساد وقسوة وظلم هذا العالم، وإلى هذا الحد يُظهِر الصليب عمق محبة الله التي تعلن بقبول يسوع للصليب تضامنها وتكافلها بشكل فاعل مع كل المظلومين والمتألمين والمعانين من فساد وقسوة وظلم العالم.
على خشبة الصليب التي يقبلها يسوع تظهر محبة الله بأبهى صورها، تلك المحبة المضحية الباذلة التي تتخلى عن نفسها في سبيل أحبائها، وتقبل أن تدفع أثمان غيرها ولو على حساب نفسها.
إن محبة الله المعلنة في الصليب ليست محبة استسلامية انهزامية، بل محبة فاعلة وقادرة أن تحول أداة القتل والإجرام إلى أداة خلاص ورجاء بمستقبل أفضل.
هي محبة قدرت أن تحول ما يراه العالم جهالة وحماقة إلى قوة وحكمة “بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة، أما لنا فقوة الله وحكمة الله”، وقدرت أن تحول أداة اللعنة إلى سبب بركة وفخر “حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح “
عيد الصليب يا أحباء هو فرصة لنا لنتوقف ليس عند قطعة الخشب التي وجدت في القرن الرابع وأعيدت بعدما ضاعت في القرن السابع على ما تقول الروايات، بل هو فرصة لنا لنتوقف عند المصلوب نفسه، نفهم منطقه وفكره وحياته، نختبر محبته اللامتناهية التي تتخلى عن مجدها وتعيش بأقوى حالات التكافل مع المتألمين والمهمشين، وتقبل حتى أن تضحي بذاتها في مواجهة أقسى أصناف الظلم والقسوة والعنف.
بوصلة عيد الصليب ليست قطعة خشب أو قبساً من نار مشتعلة، وإنما هي شخص المصلوب الذي قادته محبته كي يقدّم أشد أنواع التضحية، وقادته محبته ليفضح ويغلب كل شكل من أشكال الظلم والمعاناة.
الصليب هو صوت ينادي كل واحد منا قائلاً: “اذكر محبة الله العظيمة وعشها في حياتك كل يوم، وعندها فقط تتحقق دعوة يسوع “احمل صليبك واتبعني”
https://shorturl.fm/MlAGX