أحد السلام في فصل المجيء – القس يعقوب صبّاغ

النص الكتابي: إش 11, مت 3.
أيّها الأحبّاء، هل يمكن لجذعٍ مقطوعٍ، يابسٍ، أن يُنبت حياةً جديدة؟ هل يمكن لأرضٍ امتلأت قسوةً وعنفاً أن تُزهِر سلاماً؟ أقف عند كلمات يوحنا المعمدان لأسأل: “هل يمكن لصرخة توبة في البرّيّة أن تُمهِّد طريقَ المَلِك؟” في زمن المسيح، من يمهد للملك لا يبدأ في البرية… لكن الإعلان السماوي الأخير قبل مجيء المخلص أتانا من البرية. هل يعني هذا شيئاً لنا اليوم؟
إن هذه الأسئلة تقودنا اليوم لنتأمّل في نصَّي إشعياء 11: 1–10 ومتى 3: 1–12، حيث يلتقي وعدُ الله القديم بمجيء ملك السلام: وحيث ينبت غصنٌ جديد من جذع مقطوع، وتعلو صرخةٌ في البرّيّة لتفتح الطريق لسلام المسيح الآتي.
 
أولاً: “وَيَخْرُجُ غُصْنٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى”
ما هو الغصن هنا؟ إن المفردة العبريّة التي تقودنا هنا هي “חֹטֶר” – “حُطَر”، أي الغُصن الضعيف، الرفيع، الذي يظهر من خشبة مقطوعة. إنها كلمة تُستخدَم لوصف حياة تبدو للعين غير منطقيّة: غصن صغير يخرج من جذع ميت.
دعونا نعود إلى زمن إشعياء. هو يكتب لشعبٍ مُحطَّمٍ روحياً واجتماعياً ومادياً. إن إشعياء يكتب لشعب السبي: مَلكيّة داود قد سقطت والأشجار العظيمة قُطِعت! ومع ذلك، تأتي كلمة الرب على فم إشعياء كمن يقول:
من المكان الذي تظنّونه ميتاً… ستخرج حياة.
ومن التاريخ الذي ظننتموه انتهى… سيبدأ عهد جديد.

هذا هو عقل الله الذي يخاطبنا في المجيء: “السلام لا يولد من وفرة القوى، بل من قدرة الله على إخراج الحياة من الموت، والنور من الظلمة، والرجاء من اليأس.” إن سلام المسيح ليس سلامَ الظروف؛ إنه سلام الجذع المقطوع الذي يُنبِتُ غصناً. إنه سلامٌ يعلّمنا ألا نخاف من البدايات الصغيرة، ولا من الضعف، ولا من الجراح القديمة.
 
ثانياً: “الذئب مع الخَرُوفِ، النمر مع الجدي، البقرة مع الدبّة”
يتكلم إشعياء عن سلام يتنبأ عن إعادة تشكيل العلاقات من جديد. نحن أمام توازن جديد. كيف للذئب أن يسكن مع الخروف والنمر مع الجدي والبقرة مع الدبّة؟
المفردة العبريّة والتي يستخدمها إشعياء هي “שָׁלוֹם” – “شالوم”= السلام.
لكنّها ليست فقط “سلاماً” بمعنى غياب الحرب، بل هي كمالٌ، شفاءٌ، استعادةٌ، ملء حياة وتجديد.
في عالم إشعياء، كان الذئب ذئباً، والحمل حملاً، وأنا أعلم أن الصراع هو قانون الطبيعة. لكنّ النبي يعلن: “حين يملك المسيح، يتغيّر منطق العالم.” في المسيح، لا يعود السلام مجرّد هدنة أو توقف للحرب بشروط، بل تغييراً جذرياً في العلاقات، في الخليقة بجملتها، وفي القلب.
إن صورة الحيوانات المفترسة وهي بجانب المسالمة ليست خيالاً شاعرياً بل إعلاناً لملكوت يتحقق في المسيح: ملكوت يربط السماء بالأرض ويحوّل العداوة إلى مصالحة. إن المجيء يعلّمنا أنّ سلام الله لا يكتفي بأن يهدّئ الصراع… بل يغيّر قلب الذئب نفسه. إن سلام الله لا يضعف الحمل… بل يحميه.
 
ثالثاً: “صَوْتُ صَارِخ فِي الْبَرِّيَّة”
إن كان إشعياء قد سطّر تلك الكلمات وأعلنها، فإننا اليوم بحاجة إلى من يصيح بها كالبوق في مسامعنا. هذا هو يوحنا المعمدان. إن المفردة اليونانية التي تقودنا هنا هي “φωνή” –”فونِي” وتشير إلى أكثر من صوت عابر. إنها النداء، الإعلان، والصرخة التي تهزّ الركود وتمهد الطريق.
يوحنا المعمدان ليس صوتاً ضعيفاً؛ إنّه صوتيهز البرية. أنتم تعلمون أن البرية مكشوفة منبسطة. أي أن الصوت لا صدى له في البرية لأنها مفتوحة. لكن يوحنا يعيد الكرّة ليقول بأنه صوت صارخ… في البرية أعدوا طريق الرب.
دعوة الرب تبدأ في البرية كما يصفها يوحنا.
في البرية، عليك أن تصرخ بعلو حسك كي يصل الصوت. لكن ما يقوله يوحنا المعمدان هو الآتي: لن يدخل المسيح برسالة الخلاص إلى عالمنا من القصر، من الهيكل، من ضمن مجموعة جند، لكن، من البرية. إن البرّيّة في الكتاب ليست وطن الجفاف فقط؛ بل مكان التشكيل، الاستعداد، والترقب للوصول.
أليست تلك كلمات تعيدنا إلى زمن تيه الشعب في برية سيناء وهم مترقبون الوصول إلى الأرض: خروج الشعب من عبوديّة إلى عهد جديد؟
هذا ما يقصده المعمدان. علينا أن نتحضر في البرية لوصول رسالة الخلاص والوعد، ترقّب خلاص المسيح يبدأ من البرية حيث لا هيكليات ولا مؤسسات. البرية هي مكان يضيع فيه الإنسان لأنها منبسطة متشابهة لا نقطة علّام فيها تقودك.
ما يعلنه المعمدان هو أن من سيقودنا في الجدوب هو طريق المسيح والذي يشير له المعمدان. قبل أن يظهر المسيح، يبنى في مَحْلِ القلب طريق.
 
رابعاً: “تُوبُوا”
إن المفردة اليونانية هي ” μετανοεῖτε ” – ” ميتانوئِيتِه.” وتعني:
تغيير الذهن، تغيير الاتجاه، تغيير الحياة من الجذور.
يضيف يوحنا ليعلن أن ملكوت السماوات اقترب، ولكنّ الملكوت لا يسكن في القلوب دون توبة. لا سلام بلا توبة. لا مصالحة بلا تغيير اتجاه. لا ميلاد جديد دون موت بعض الأشياء القديمة. لا أظن أن المجيء احتفال خارجي، بل تغيير الاتجاه.
سلام المسيح لا يسكن حيث يحتفظ الإنسان بكل أسلحته الداخلية: غضبه، كبريائه، ضغائنه، مخاوفه.
 
خامساً: “وَهُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ”
يوحنا يعمد بالماء، لكن المسيح يعمد بالنار والروح: النار هنا هي التي تنقي وتطهّر. إنه الروح الذي لا يخيب بل يجدّد. هو يشير إلى قوة لا يعطيها العالم بل يمنحها الروح القدس.
قد يخالفني الكثيرون، لكن سلام المسيح ليس هدوءً بالنسبة لي. سلام المسيح هو طمأنينةٌ وسُكونٌ وثقة في الرب عندما تعرف أن هدير العالم وزغبه لن يفتأ نار الرب في قلبك. ليس المجيء انتظاراً للطفل في المذود فحسب… بل قبولاً للنار المطهرة التي يأتي بها هذا الطفل إلى العالم.
 
الخاتمة:
أيّها الأحبّاء، من جذعٍ مقطوع… وُلد الغصن. من عالمٍ مضطرب… وُلد السلام. ومن برّيّةٍ قاحلة… انطلق صوت يفتح الطريق. في عالم بارد نتعمد في نار الحب. هو المسيح الذي سينبت في أماكن اليأس. ملكوته إلى الأبد.
اسأل نفسك الآن: ما هو الجذع المقطوع في حياتي؟ ضعه أمام الله، واطلب أن يُنبت فيه “غصناً” جديداً – غصن بداية وخطوة توبة. فكر في عادة سيئة يجب التوبة عنها\ تصحيح ظلم صغير\ أنت الذي تقضي ساعات على الهاتف الجوال، اكتب رسالة اعتذار واحدة في حق من أخطأت في حقهم وظلمتهم دون وجه حق.
قد تكون خطوة واحدة مما سبق. لكن ثق أن المسيح قادر أن يفتح آلاف الأبواب نحو السلام.
 

اترك تعليقاً