لو خطر قبلاً ببال لوثر أنَّ هذا سوف يحدث، لكان أضاف البند السادس والتسعين لأطروحته. ليس لأن امرأة تقف هنا، بل بالأحرى لأن ذلك تأخر حتى اليوم.
زار أحدُهم موقعاً للبناء وسألَ العمال: “ماذا تفعَلون؟” فأجاب الأول أنه يبني حائطاً، وآخر أجاب أنه يبني غرفةً، وآخر أنه يبني بيتاً. إنَّ تركيزنا على ما نعتقد أننا نبنيه، أحائطاً كان، أم غرفةً، أم منزلاً يصنع كل الفرق في موقفينا العقلي والقلبي من الأمور.
يستخدم الرسول بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس تعبيراً مَجازِياً يقولُ فيه: “أنتُم هيكل الله!” فبعدَ أن أمضى بولس ثمانيةَ عشرَ شهراً في كورنثوس، عاد ثانية لِيَجِدَ أنّ جماعةَ الإيمان ابتعدت عن الأسُس والتعاليم التي وضعها، حيث كان ثمة انقسامات ومُمارسات خاطِئة قد سبق وسيطَرَتْ عليهم. وعليه، أكَد الرسول على الحاجة إلى إيجادِ النهج الصحيح للبِناء على أساس يسوع المسيح، بدْءاً مِن وضع حجر الأساس، مرورًا بعملية البناء، وصولاً إلى المعاينة والتقييم. على كلِ فرْدٍ أنْ يكونَ حريصاً كيف يبني. الكورنثيون كانوا جماعةَ إيمانٍ، لكنَهُم كانوا مُنْشَغِلين بأمورٍ أخرى. وعليه، ارْتأى بولس أنْ يعطيَهُم التعليمات عن كيفية البناء.
وَلِفهم الاستعارة التي يُحاول بولس أن يستخدمها هنا، عليْنا أن نستذكر كيفية بناء البيوت في الزمان القديم وبالطريقة القديمة. كانت عملية البناء تتطلبُ وقتاً وجُهْداً وطاقة والعديد مِن العمال. فقد اعتادوا قديماً بِناء مقالع للحجارة قرب مواقع البناء. وكانت الحجارةُ تُنْقلُ عبْرَ سلسلةٍ مِن العمال بحيث يُنْقلُ الحجرُ مِن عاملٍ لآخَر، بدءًا من المقلع حتى وصوله إلى موقع البناء. وإذا ما أوقعَ أحدُ العمالِ حجراً، تأثرَ إيقاع عملية البناءِ برمتها.
لكي نكونَ هيكل الله وبنائين، علينا أن نتعلمَ كيف نبني بشركة كامِلة مع جماعة الإيمان. هذا ما تُعَلِمُنا إياه عملية نقل الحجارة عبر سلسلة العمال. على كلِ فردٍ أنْ يُشارِكَ في نقلِ حجَرِه كي يكتَمِلَ البناء ويكون جميلاً.
هذه هي الشركة الحقيقية، أنْ نعمَلَ معاً مُركِزينَ أنظارَنا وأفكارَنا لِنصيرَ هيكل الله. وهنا لا بد مِن الإشارة إلى أمرين هاميْن:
أولاً، حجارتُنا ليْسَتْ متشابهة، لكن رُغْمَ فروقاتِنا، نأتي معا لِنُقَدمَ أحجارنا المتمايزة بكلِ تواضُعٍ، واثقين أنَ نِتاجَ عملِنا سيكونُ جميلاً. لديْنا مجموعة مِن الحجارة المُخْتلِفة، وقد علَمَنا الإصلاح قيمةَ التنوع وجماله. كيف يحتَرِمُ بعضُنا بعضاً، حتى ولو اختلَفَتْ وتنَوَعَتْ أفكارُنا. إنَ تنوعَنا هو جمالُ هُويتِنا المُصْلَحة، رُغمَ أنَّ ثمة كنائس كثيرة تدَعي أن هذا التنوع يُرْبِكُها!
ثانياً، هناك شيءٌ آخر يجب أن نتعلَمَه خلال عملية البناء: إنّ المخطط النهائي للبناء هو بين يدي الله. لا كنيسة ولا فرد، لا بولس ولا أبولوس، ولا أنت ولا أنا نملِك هذا المخطط. لذلك، نحن نبني بإيمان، مُعْتَرِفين أنَنا نعرِف قليلاً. بيدَ ان الله بِمَراحِمِه يَكْشِفُ لنا الصورةَ النهائية للكنيسة. وهذا يُعَلِمُنا التواضع والصبر، الأمر الّذي يجعلنا نُثابِر لِنَسْتَمِر في الإصلاح، كي نقتربَ يوماً بعدَ يوم مِن الصورةِ التي يُريدُنا الله أن نكونَ عليْها.
ومِن الملفت أيضاً، أن بولس يَحُثنا على أن نكون حريصين في كيفية بنائنا على الأساس. إنّه يُؤكد على الأسلوب والمنهج اللذين يتمُ فيهما البناء، وليسَ على البناء نفسِه.
لا يتكلل البناء الصحيح لكنيسة المسيح بالنجاح بعيداً عن الشعور بحاجة الواحد مِنا للآخر. هذا ما يجمَعُنا اليوم معاً في هذا المكان “الرمز”، حيث حاولَ لوثر بناءَ الكنيسة على الاساس الصحيح. لقد تحدى لوثر حالة الإرباك التي كانت تملأ حياة الكنيسة آنذاك، وكانتْ رغْبتُهُ أن يرى مُمارَساتِ الكنيسة لا تحيدُ عن الأساس الصحيح.
نقفُ اليوم معاً، مِن مُختَلِفِ البلدان والكنائس والخلفيات، لِنتعهَدَ بِأنَنا سنكون شركاءَ يعْمَلُ واحدُنا مع الآخر. لا يُمْكِنُنا أن نَنْجَحَ في بناء الكنيسة إنْ لمْ تَتَحِد جُهودُنا مع بعْضِنا البعض.
استوقفتني مؤخراً على الأخبار قصةُ الشاب “عبود قبلو”. وهو يافع في الرابعة عشرة مِن عُمْرِهِ، ولاجئ سوري أُجْبِرَ على ترْكِ منزلِه في حلب، سوريا. قامت “سوزي أتوود”، مخرجة الأفلام، بمقابَلَتِهِ في دير للسريان الأورثوذكس، حيث علِمَتْ مِنه عن حبه للموسيقى وكيفية تعلمه اياها معتمِداً على نفسه ومِن خِلال مقاطع الفيديو عبر موقع يوتيوب. فأبْدَتْ الاخيرة اهتمامَها بموهبتِهِ واتصلت بجامعة أوكسفورد طالِبَةً إعارةَ كمانٍ قديم مُرَمَمٍ من مجموعة الآلات التاريخية التي تحتفظ بها الجامعة. وقد تمّ فعلا إرسال الكمان للموسيقي السوري الشاب، الذي يعيش كلاجئ، بعد ان قرَرَت الجامعة إرساله لتضعه بين يدي لاجئ مُكافحٍ ومُتألِم.
أحبائي، نحتفل هذا العام بثروة خمسمائة عام من إرث الإصلاح الثمين. لكن إن لم نَضعْ هذا الارث بين يدي المتألمين في العالم فلنْ نصنع أي فرق. إن لم نضع كمانَنا الثمين بين يدي هؤلاء الذين يتألمون مِن الظُلْم، سيفوتُنا معنى الاحتفال الحقيقي. وإذا لم نضع إرثَ كلمات لوثر عندما قال: “هنا أقف، لِأتكلمَ ضد كل ما يُجَرِد الناس مِن صفاتهم الإنسانية ويتركهم فقراء، دون بيوتٍ وكرامة”، ثقوا أننا سوف نخسر الاحتفال بالإصلاح.
اليوم، نحن نقف أمام إلَهِنا لتقديم جردة حسابنا. نحن مدعوون لكي نستخدمَ إبداعنا لِنصْنَعَ فرْقاً في العالم، ليكون عالَماً أفضَلَ حيث يسود السلام والمصالحة والعدل. نحن مدعوون لِنرْفَعَ هذا الإرث الرائع ونقول: “ميراثنا هو لِلْعالَم… لِكُلِ العالَم”. لِنقِف ونُعْلِن أهمية التطلع إلى داخل الإنسان، لنقول له: “أنت غالٍ في عيني الله مهما كان لونُكَ أوجِنْسُكَ أوعِرقُكَ أوجوازُ سفرِكَ. ولكَ كلُ الحق ليس فقط في أن تأكلَ وتعيش، بل أيضاً في أن تعزِفَ لحناً لِلْعالَم”. لْنُؤمِن ونَثِق أنّ هناك قيمة لِلْمُستقبَل كما للماضي، وبأننا معا نعيش الحاضر كي نصنع الفرق. نقف اليوم أمام تعاليمِنا المصلَحَة لِنَجِدَ الإجابة عن السؤال: ما هو تأثيرنا اليوم على العالَم؟ علينا ان نتأكد أنّنا سَنُمْتَحَنْ بالعدلِ والسلام بين الشعوب. سَنُمْتَحَن إذا كُنا حقيقةً نُشْبِه يسوعَنا!
في حفل تخرجي من معهد “برنستن اللاهوتي”، فاجأنا الواعظ المعروف “فْريِدْ كرادوك” في عظتِهِ تحت عنوان “التجربة الأخيرة للكنيسة” ((Last Temptation Of The Church حيث قال إنَّ الكنيسة سوف تموت! صُدِمنا للوهلة الأولى مِن هكذا رسالة ونحنُ في بداية الطريق لِخِدْمَة الكنيسة – لقد بدت رسالة مُحْبِطَة. لكن الواعظ تابع لِيقول إنَّ الكنيسة ليست أفضل من سيدِها. عليها أن تتبع خطاه، وبالتالي عليها أن تموت معه لكي تقوم معه!
نحن مدعوون كي نموتَ مع سيدِنا، كي نُفْرِغَ ذواتنا لِنمْتَلىءَ بقوة قيامته. كما اننا مدعوون لكي ندفع الثمن، حتى لو اضْطُرِرْنا للتخلي عن كمانِنا الغالي والثمين.
اليوم، نتذكر كلمات لوثر على مِنبرِهِ: “الديانة التي لا تُعْطي شيئًا، ولا تُكَلِفُ شيئًا، ولا تتألَم عن شيء، لا تساوي شيئًا”.
إن مجيئنا معاً ككنائس لِكي نُوَقِع “شهادة وتنبرغ” إنّما هو التزام بأن نقدّم كماننا الغالي ونضم أيادينا لِنبني معاً. ولو سألنا أحد “ماذا تفعلون؟”، فسوف نعلن أننا لَسْنا نُوقِعُ شهادةً وحسْبْ، بل نحن نبني معاً هيكلَ الله.
اليوم، نصرُخُ معاً: “إلَهَنا الحي، جدِدْنا وغيِرْنا! تعالَ أيها الروح القدوس وجدِد أذهانَنا وأفكارَنا!”
ولإلهنا كلُ المجد. آمين.
(القسّيسة نجلا قصّاب – الفصل الثالث 2017)