حقَّق المسيح العدالة الإلهيَّة كاملةً بموته النِّيابي على الصَّليب. وفي مثل السَّامري الصَّالح علَّم بكُلِّ وضوحٍ عن العدالة الإنسانيّة، حيث نرى ذلك السَّامري ينقذ الرَّجل الذي وقع في الطريق جريحاً بين الحياة والموت، غير معروف الهويَّة، وربَّما يقع عليه اللوم لسفره وحيداً في هذا الطَّريق، وبحوزته بضائع أو أموال، كانت سبباً في تعرُّض اللصوص له. ولو كان يهودياً، وهو الأرجح، فهذا يعني أنَّه كان في حالة عداءٍ قَديمٍ مستمرّ مع ذلك السَّامري الذي أنقذه.
وما عمله ذلك السَّامري تتجسد فيه كافَّة معاني العدالة الإنسانية. وهذا هو التَّطبيق العملي الصَّحيح لمعنى القريب. واضحٌ من كلام المسيح مع الفرّيسي الذي سأله أنَّ المقصود هو تفسير وصيَّة محبَّة القريب. إذاً، القضية قضيَّة فهمٍ وتطبيقٍ، بحسب ما سينتهي به المثل. والناموسي يجيب: أنَّ محبَّة الرَّبّ، ومحبَّة القريب هما الطَّريق إلى الحياة الأبدية. ولكن بقي عالقاً في إجابته الرَّبط بين الوصيَّتين. أمَّا المسيح، فقد جعل الوصيَّة الثَّانية توازي الأولى في أهمِّيتها، وتساويها، وربط بينهما بدقَّةٍ. الأمر الذي أثار اعتراض النَّاموسي، فسأل: “ومن هو قريبي؟”. فبيَّن يسوع في المثل أنَّ فهم وتطبيق الوصيَّتين لا يحدث إلاَّ في حدثٍ واقعيّ. أمَّا المحبَّة الحقيقيّة، للرَّبّ وللقريب، فهي التي تثور على التَّاريخ المتوارث، وتصحِّح الأوضاع المغلوطة، وتعيد العلاقات الممزَّقة. هي ثورة إصلاحٍ على ترتيب الأنظمة التي قامت على أساس التَّصنيف الطَّائفي أو السِّياسي أو الاجتماعي أو الرُّوحي. وهكذا يوضِّح المسيح ذلك المعنى عندما وضع سلوك السَّامري في مقارنةٍ بسلوكَيّ الكاهن واللاوي. فما قاما به هو مثلٌ لما يقوم به الإنسان بشكل عام، عندما يربط علاقته مع الآخر بما تفرضه العلاقات الإجتماعية أو القوانين الدِّينية التَّصنيفيَّة التي وضعها الإنسان وقيَّد نفسه بها. أمَّا ما قام به السَّامري، فهو نموذَجٌ للحركة البروتستانتية، فيها الاحتجاج وفيها التَّحرُّر من القيود.
السَّامري البروتستانتي
كانت كلمة “سامري” تُطلَق على كلِّ هرطوقيٍّ أو كاسرٍ للنَّاموس، حتى لو لم يكن من السَّامرة. ولعلَّ ذلك السَّامري كان من الذين احتقرهم الصَّالحون والمستقيمون في نظر أنفسهم. فالسَّامريون في تصنيف اليهود جماعة كافرة، لا يؤمِنون بِما يؤمن به اليهود، ولا يتعبَّدون في المكان الذي يتعبَّد فيه اليهود، أورشليم، ولا بالأسلوب الذي يعبدون الله به، فهم بالنِّسبة لهم خوارج. أمَّا المسيح فقد جعل من ذلك السَّامري بطلاً للقصَّة. إنَّه أمرٌ خطيرٌ في تلك المؤسَّسة الدينيَّة اليهوديَّة في أورشليم، التي كانت تقوم بعمل كبير في تقديم الذَّبائح والقرابين، وتعليم النَّاس شريعة الله، أنْ تغفل تماماً عن أنَّها أُنشئت أصلاً من أجل العدالة بين النَّاس، وتكريس ما يجمعهم في حاجاتٍ مشْتركةٍ. وقد تحوَّلت إلى عاملٍ خطرٍ، عندما وجَّهت الإنسان إلى أن يجعل الطُّقوس الدِّينيَّة غايةً في ذَاتِها، وتجاهلت الغاية التي لأجلها أُقيمت، وهي ترسيخ العدالة وتحقيق الخير. وهكذا، لم تكن العدالة هي المحرِّك الدَّافِع لتلك الأنظمة، بل أصبحت تلك الأنظمة هدفاً، فتحوَّلت بذلك إلى أداة ظُلمٍ ونفيٍ للإنسان، الأمر الذي صدر عن الكاهن واللاوي.
وهكذا أظهر يسوع المعنى غير المُحَدَّد للقريب، إنَّه اللقاء من دون وساطة مع الآخر، اللقاء الذي يتخطَّى التَّصنيف الاجتماعي أو الدِّيني الذي تُقرِّره المؤسَّسات أو التَّقاليد والعادات. كان ذلك السَّامري رجلاً حرّاً تصرَّف بتِلقائيته الإنسانيَّة مع ذلك الجريح على أساس المساواة، إنَّه إنسانٌ مُساوٍ لأيِّ إنسان آخرٍ، مهما اختلف لونه أو جنسه أو عقيدته. إنَّ القرابة في نظر يسوع هي العلاقة الواقعيَّة العادلة، التي ترى في الآخر إنساناً. وما جعلني أُطلق عليه لقب “السَّامري البروتستانتي”، هو أنَّه تصرَّف بطريقةٍ احتجاجية على التَّقاليد المتَّبعة، التي كانت تمنعه من مساعدة ذلك المسكين، وتمنعه من لمس تلك الجراح التي كان يعاني منها، وتمنعه من إنقاذ نفس وقعت بين الحياة والموت. لقد تخطَّى كلّ تلك الحواجز وهدمها، وهزم مخاوفه من أن يشتبك معه اللصوص، أو من أن تكون هذه تمثيليّة ادِّعائية للإيقاع به. هذا هو الرَّبط العملي بين محبَّة الرَّب ومحبَّة القريب، والتَّرجمة الدَّقيقة للإيمان الصَّحيح: (إيمانٌ عامل، في عملٍ عادل).
تمجيد الله هو الهدف الوحيد
هذه واحدة من أهمّ مبادئ الإصلاح. أمَّا التَّعبير “مجد الله” فهو يعني كامل صفاته. فالمسيح “بهاء مجد الله”، أي أنَّه الوحيد الذي أظهر تلك الصِّفات كاملةً وجسَّدها في حياته كلِّها، في أقواله المدهشة، وفي أفعاله المعجزيَّة منها والعاديَّة. والإنسان يمجِّد الله، أي يعكس صفات الله، وهذا هو الهدف الأسمى في حياة كلِّ مؤمنٍ، أن يمجِّد الله، بأن يعكس فكر الله في أفكاره وأقواله وأفعاله. لذلك علَّم المسيح تلاميذه: “فَلْيُضِئ نُورَكُم هَكذا قُدَّام النَّاس، لِكَي يَرَوْا أعْمالَكُم الحَسَنَة ويُمَجِّدوا أباكُم الذي في السَّموات” (متى 5: 16). لذلك، شدَّد المُصلَحون على ضرورة ترجمة الإيمان المسيحي في كافَّة مجالات الحياة. فلا يكون الإيمان مجرَّد معتقداتٍ وممارساتٍ، بل يكون عاملاً وظاهراً لتمجيد لله.
لذلك قدَّم المصلحون مفهوماً جديداً للعمل. فالعمل ليس وسيلةً للكسب والعيش، كما كان سائداً قبل الإصلاح، وحتى الآن، إنَّما الكسب والعيش هو نتيجةً للعمل وليس هدفه. لذلك نظر العُمَّال الإنجيليّون إلى العمل نظرةً مختلفةً عن نظرة بقيَّة العمَّال، حيث رأوا أنَّ العمل الجادَّ هو عنصرٌ من عناصر النَّجاح الدُّنيوي، وعلامةٌ مرئيّةٌ نتيجة الخَلاص الشَّخصي. فالعمل نشاطٌ جسديٌّ وذهنيٌّ، وروحيٌّ أيضاً لخدمة الله وتمجيده.
هذا هو أساس نظريَّةٍ قدَّمها عالم الاجتماع الألماني “ماكس فايبر” 1864-1920م (نظريَّة الأخلاق البروتستانتيَّة). لم يكن فايبر لاهوتيّاً ولا إنجيليّاً، ولا حتَّى شخصاً متديِّناً، هو كان محلِّلاً اجتماعيّاً، سجَّل ملاحظاته الاجتماعيَّة وقناعاته من وجهة نظرٍ اجتماعيةٍ واقتصاديَّةٍ. حيث تبيَّن له أنَّ هناك علاقةً واضحةً بين الالتزام بالفكر الإنجيلي المُصلَح، وبين الإنتاجيَّة في العمل.
قام “ماكس فايبر” بدراسة المجتمعات الصِّناعيَّة وظهور الرَّأسماليَّة كأسلوب إنْتاجٍ جَديد في العَمَل. وأعطى أهميَّةً كبرى في دراسته لتأثير المعتقدات الدِّينيَّة على الإنتاج في العمل. وخرج بنتائج هامَّةٍ جِداً عن تأثير القيم الدِّينيَّة في عقلنة القطاع الاقتصادي، وكافَّة القطاعات الأخرى. وقد وجد أنَّ الزُّهد هو الشَّكل الواسع للتَّديُّن، حيث يتضمَّن توجُّهاً نحو العمل مع الالتزام بتحريم مباهج الحياة. كما تتبَّع “فايبر” أثر المعتقدات البروتستانتيَّة، خاصَّةً الكالفينيَّة، على نشوء العقليَّة المنظَّمة الهادفة، والأسواق المفتوحة، والعمالة الحُرَّة. فاكتشف أنَّ قادة قطاع الأعمال، وملاَّك رأس المال، والعمَّال المهرة في الوظائف العليا، والكوادر الأكثر تدريباً فنيّاً وتجارِيّاً، جميعهم كانوا من البروتستانت. ما جعله يؤكِّد أنَّ الأخلاق البروتستانتيَّة هي سببٌ هامٌ في الإنْتاج المتميِّز لأعضائها. فهي تَعِظهم أن يؤدُّوا أعمالهم بكفاءةٍ وعدالةٍ وجدارةٍ، وتدفعهم دفعاً للعمل الأمين المخلص، والسَّعي العقلانيّ وراء الرِّبح بانتظامٍ، وتبثُّ فيهم روح الانضباط والإنصاف والالتزام. وهكذا، وفَّرت البروتستانتيَّة عمَّالاً جادِّين منضبطين، يتمسَّكون بعملهم وكأنَّه هدفٌ دينيٌّ للحياة، ونوعٌ من العبادة للرَّبّ.
كان المصلح الإنجيليُّ “جون كالفن” وراء هذا الفكر، حيث آمن وعلَّم بأنَّ الإنسان عندما يختبر الإيمان الصَّحيح في حياته، يختبر أيضاً دعوة الله له إلى العمل الجاد الأمين المُخلص والعادل. لقد فهم الإنجيليون أنَّ دعوة الله لهم للإيمان وخدمته لا تكون في الانعزال عن المجتمع والزُّهد بالدُّنيا والتَّقشُّف، بل بالمشاركة في خدمة المجتمع وتطويره من خلال العمل. فخدمة الرَّب لا تكون فقط من خلال الوعظ والتَّعليم والتَّرنيم والصَّلاة، لكن أيضاً من خلال إنجاز الأعمال الأُخرى المتنوِّعة، وإتقانها بأفضل طريقةٍ ممكنةٍ، حتى يصبح العالم الذي خلقه الله عالماً جميلاً ممتعاً. هذا الفكر الإنجيلي جعل الإنسان المسيحي مسؤولاً في عمله، ليس فقط أمام ربِّ العمل، بل أمام الله بالدَّرجة الأولى. وجعل العمل، ليس من أجل كسب لقمة العيش فقط، بل من أجل تمجيد الله بالدَّرجة الأولى.
لذلك اعتبر الإنجيليون “الكسل” من أخطر الخطايا على الحياة الإيمانيَّة، لأنَّه يكشف خللاً في ذلك الإيمان. كما رفضوا “التَّسوُّل” بشكلٍ قاطعٍ، لاسيَّما للقادرين على العمل. لأنَّ المتسولين يتمرَّدون على دعوة الله للعمل. لقد كان الإصلاح الإنجيلي عودةً إلى نَقاء الدِّين الأوَّل وصفاء الضَّمير، وتحرُّراً اجتماعيّاً من سلطةٍ مركزيَّةٍ استغلَّت الشُّعوب باسم الدِّين، وفرضت الضَّرائب باسْم التَّقوى، وتحت شعار الإيمان. فكانت الدَّعوة إلى التَّحرُّر الدِّيني والاجتماعي دعوةً لرفض الإستغلال والسَّيطرة.
وهكذا فإنَّ العقليَّة البروتستانتيَّة أو الإنجيليَّة تقف ضدّ العادات والتَّقاليد التي تميِّز بين إنسانٍ وآخَر، وتعترض عليها بشدَّةٍ إقْراراً للعدالة. كما تقف ضدَّ الكسَل والتَّسوُّل، لأنَّها تعتبر العمل في حدِّ ذاته هو لمجد الله، وأنَّه يقدَّم له بالدَّرجة الأولى.
(القس أمير إسحق – الفصل الثالث 2017)