أحد الأسئلة المطروحة دائمًا على الإنجيليّين عمومًا، وفي الفترة السابقة لعيد القيامة المجيدة خصوصًا، هو السؤال المُختصّ بالصوم. هل تصومون – أيها الإنجيليّون – كما يفعل باقي المسيحيّين؟
إجابتي طبعًا تنطلق من كوني إنجيلي أسقفي، حيث تتّبع الكنيسة الأسقفيّة ترتيبًا خاصًّا مُتضمَّنًا في كتاب الصلاة العامّة التي تستخدمه الكنيسة الأسقفيّة منذ 1662، كأساس لجميع كتب الصلاة العامّة التي تمّ تعديلها وتطويرها ومراجعتها حتّى يومنا الحاضر.
وتنطلق إجابتي أيضًا من فهمي للكتاب المقدّس الذي لا يُهمل موضوع الصوم، بالإضافة إلى تراثي، الشرقي المسيحي الذي أعيشه في علاقتي بجذوري المسيحيّة الممتدّة في هذا الشرق منذ العنصرة الأولى.
الصوم مبدأٌ كِتابيّ وممارسة مُتّبعة في العهدَيْن القديم والجديد، ومُدّة الصوم 40 يومًا هو الرقم المُعتاد. لقد صام موسى على جبل حوريب/ سيناء لمُدّة أربعين يومًا، وإيليّا النبي صام أربعين يومًا، والرب يسوع المسيح أيضًا صام الفترة ذاتها. والصيام في حياة العُظماء الثلاثة كان يسبقه أو يتبعه فترة من التجربة التي تحتاج الى قوّة روحيّة عالية لمحاربتها.
الرقم “40” هو عدد سنوات التيهان التي عاشها الشعب في البريّة بحسب العهد القديم، عِقابًا على تمرّده وعدم ثقته بالله الحي الذي أخرجه من مصر بيدٍ قويّة. يبدأ الصوم عادةً بِيَوم “أربعاء الرماد” حسب الكنائس التي تتّبع التقليد الغربي، بينما يبدأ يوم “إثنين الرماد” حسب التقويم الشرقي. والرماد رمزٌ للتوبة واعتراف الإنسان بضعفه وهزالته، وقد كان رمزًا للتوبة حينما نادى يونان النبي أهل نينوى بالتوبة، إذ آمن الملك والشعب وصاموا عن الطعام، وأجبروا حتّى البهائم والحيوانات على الصوم، وجلسوا في المسوح والرماد تعبيرًا عن خضوعهم للدعوة الإلهيّة وتلبيةً للتوبة المطلوبة (يونان 3). وقد نادى يوئيل النبيّ الشعب “قَدِّسُوا صَوْمًا. نَادُوا بِاعْتِكَافٍ” (يوئيل 2: 15)، تعبيرًا عن التوبة والندم على خطاياهم.
وفي أربعاء (إثنين) الرماد، تُمارس مُعظم الكنائس المسيحيّة التقليديّة، وبعض الكنائس الإنجيليّة، منها بعض الكنائس الأسقفيّة (الأنغليكانية)، وبعض الكنائس المشيخيّة خاصّة في الغرب، عادة رسم الصليب على جباه المُصلّين بالرماد الناتج عن حرق بعض السعف المحفوظة من أحد الشعانين السابق والمخلوطة بالزيت أو الماء، لتوضع على الجباه خلال خدمة أربعاء الرماد، مع قول الراعي للمُتقدّمين “أذكر يا إنسان أنّك من ترابٍ وإلى ترابٍ تعود” (تكوين 3: 19). وبهذه الجملة مع وضع الرماد، على الإنسان المُتقدّم أن يُفكّر في ضُعفه البشريّ وأنّ عليه الرجوع تائبًا الى الله عن كلّ خطاياه، ليبدأ مسيرة الصوم لمدّة أربعين يومًا استعدادًا للاحتفال بأسبوع الآلام والقيامة المجيدة.
وعليه فإنّ مُدّة الصيام فعليًّا هي 46 يومًا، حيث يستمرّ الصوم لأربعين يومًا بين أربعاء الرماد وأحد الشعانين، ويُزاد عليها ستّة أيّام أسبوع الآلام. وبعض الكنائس تبدأ الصوم يوم إثنين الرماد لأنّها تُعيّد يومين خلال الصوم وتأكل خلالهما السمك، وهما: عيد القدّيس يوسف بتاريخ 19/3، والبشارة بتاريخ 25/3 (بحسب التقويم الغربي)، ولهذا تستعيض عنهما بالبدء يومين قبل أربعاء الرماد.
وإذا كانت الكنيسة الصائمة لا تُحبّذ الصيام يوم الأحد خلال فترة الصوم، لأنّه يومٌ احتفاليّ بالقيامة (خصوصًا إذا كان يومًا للاحتفال بالشركة المقدّسة العشاء الربّاني/ الأفخارستيّة. عندها تكون الكنيسة قد صامت فعليًّا أربعين يومًا فقط).
وهناك ثلاثة أنواع من الصوم، كلّ منها يعتمد على تراث مسيحيّ مُختلف:
1- التراث الأوّل يعتمد على الانقطاع عن اللحوم ومنتجات الحيوانات، والسماح فقط بأكل السمك أيّام الآحاد والأعياد، التي مرّ ذكرها خلال فترة الصوم. وتتبع هذا النوع من الصيام خصوصًا الكنائس ذات التقليد الشرقي الأرثوذكسي، وأيضًا الكنائس ذات التقليد الغربي في المشرق عمومًا ومنها الكنيسة الأسقفيّة.
واللاهوت خلف هذا النوع من الصيام هو المهمّ برأيي، حيث تستند الكنيسة في الصوم عن نتاج الحيوان على قصّة آدم وحوّاء والخليقة قبل السقوط. لقد طلب الربّ من آدم وحوّاء بعدما وُضعا في جنّة عدن أن يأكُلا من شجر الجنّة فقط ولم يعطهما تصريحًا بالأكل من الحيوانات والبهائم، رغم أنّه أعطاهما سلطانًا عليها.
إنّ الذبيحة الأولى في الكتاب المقدّس كانت في سفر التكوين 3، حينما ألبس الله أبوينا الأوّلين أقمصة من جلد ليستُر عورتهما بعد السقوط، والجلد مأخوذ من الحيوانات عادة. لذا تنادي الكنيسة بالصوم عبر الانقطاع عن نتاج الحيوان كفعل توبة واشتياق إلى حالة النقاء الأولى التي خُلق عليها آدم وحوّاء، قبل السقوط والابتعاد عن الله. وهكذا بالعودة إلى تناول ثمار الأرض “وشجر الجنّة” نُقرّ بأنّنا أخطأنا بتمرّدنا على الله، ونُعلن استعدادنا للعودة إليه.
وربّما لهذا تمّ اختيار الصوم “الأربعيني” قبل القيامة (كما أنّ كثير من الكنائس تصوم 40 يومًا قبل الميلاد أيضًا)، حتّى نسير مع يسوع اعتبارًا من تجربته في البرّية وآلامه وصليبه وموته وقيامته. ليكون فيه وحده عودة صادقة إلى الله، بِخَلاصه الذي عمله على الصليب.
2- صوم الانقطاع عمّا تُحبّ أو ما يُسمّى بالإماتة: وهذا الصوم شائع في الغرب عمومًا حيث يمتنع الإنسان عن تناول أطعمة يُحبّها ولو كانت من نتاج الأرض أو الشكولاتة والبعض مؤخّرًا يصوم عن التدخين أو مواقع التواصل الاجتماعي أو ممارسة سيّئة يُحبّها، وذلك كنوع من إخضاع النفس وتدريبها على مقاومة الشهوات الجسديّة، وبالتالي تكريس الوقت والجهد لقراءة الكتاب المُقدّس أكثر والصلاة والذهاب إلى الكنيسة والاهتمام بحاجات الآخرين والتطوّع في الخدمات الخيريّة… الخ
ولهذا سُمّيت “إماتة” حيث يُميت الصائم شهوته للطعام المُفضّل لديه أو الأمور المُمتعة له، ليضع تركيزه على أمورٍ أخرى لخدمة الله والآخرين.
3- التراث الثالث يعتمد على الانقطاع التامّ عن الطعام يوميًّا من مشرق الشمس إلى مغربها، رغم أنّ الصائمين عن نتاج الحيوان أو صوم الإماتة يُخصّصون أوقاتًا لا يتناولون الطعام فيها أبدًا، إلّا أنّ هناك الكثير من الإنجيليّين يُفضّلون هذا النوع الثالث من الصوم، حيث أنّهم ينقطعون عن الطعام طيلة النهار، وعندما يفطرون يتناولون أي طعام كان.
هذا الصوم مارسه الشعب في العهد القديم، وخصوصًا دانيال وأيضًا موسى وإيليّا (رغم امتداد الصيام فترة طويلة)، والربّ يسوع نفسه انقطع عن الطعام كليًّا حسب متّى 4.
ويجد الذين يُمارسون هذا النوع من الصوم أنّه تدريبٌ للنفس والجسد على الخضوع لله والتوبة له وطاعة لكلمته. مع التأكيد أنّ هذا النوع من الصوم غالبًا ما لا يرتبط بفصل الصوم، بل يعتمد على ترتيب شخصي أو جماعي لحاجة ما تلبيةً لقول المسيح ” وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ” (متّى 17: 21).
وقد بدأ الصيام ضمن فصل طقسي تتزيّن فيه الكنيسة باللون البنفسجي (لون الاستعداد والألم) في القرنَيْن الثاني والثالث الميلادي، وكان فصلًا خاصًّا بالموعوظين الذين آمنوا حديثًا بالمسيح، ويستعدّون للمعموديّة ليلة الفصح/ عيد القيامة في سبت النور، وكان هؤلاء فقط الذين يصومون استعدادًا لمعموديّتهم. وأصبح فصل الصوم “الأربعيني” عامًّا لجميع المسيحيّين اعتبارًا من القرن الرابع الميلادي، حيث أصبح الصوم فصلًا للتخزين الروحي والاستعداد للاحتفال بالقيامة المجيدة.
وللصوم رُفقاء أسمّيهم فيتامين “ص”، وهم بالإضافة إلى الصوم، الصلاة والصدقة، حيث يُعتبر فصل الصوم فصلًا لتكريس الوقت للصلاة وقراءة الكتاب المقدّس والتأمّل في عمل الله الخلاصي من أجلنا. وعندما نعرف مدى محبّة الله وعطاياه الكثيرة لنا، نُعطي ممّا حرمنا منه أنفسنا طوعًا للمحرومين قصرًا بسبب الأحوال الصعبة التي يمرّون بها. وبذلك نتعلّم في فصل الصوم بذل الذات والمال لمن يحتاجهما، تابعين ما عمله أهل كورنثوس الذين أفاضوا في العطاء “بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ” (2 كو 8: 5).
لذا في فصل الصوم، ليس علينا أن نسأل “هل نصوم؟”، أو “كيف نصوم؟”، أو “أي طريقة هي الأصعب أو الأسهل للصوم؟”، بل يجب أن نسأل السؤال الحقيقي “لماذا أصوم؟”…
عندما سألوا يسوع “لِمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيرًا، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟”، أجابهم الرب: “هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ” (متّى 9: 14-15). وعندما علّم عن الصوم في الموعظة على الجبل قال: “وَمَتَى صُمْتُمْ” (متّى 6: 16).
إذًا الرب يسوع افترض أنّ المؤمنين به سيصومون يومًا، لكنّه افترض أنّ الصيام هو فرصة للتقرّب إلى الله والاستعداد للقائه. ففي الموعظة على الجبل على الصائم أن يدهن رأسه ويغسل وجهه، وهو فعلٌ برأيي يمارسه العريس فَرحًا بيومه الكبير، فكما يفرح العريس بيوم فرحه، هكذا يفرح الصائم بصومه، لأنّ الصوم يجعلنا نتخلّى عن شهوات الأرض ليُطلق أرواحنا للقاء المسيح بالروح القدس.
فكلّما اقتربنا من الله بالصوم والصلاة والصدقة المبنيّين على الإيمان الواثق بالمسيح المُخلّص (لأنّ ممارستنا المسيحيّة لا تقودنا إلى الإيمان، بل على أساس الإيمان نقترب إلى الله بالصلاة والصوم والصدقة وجميع الأعمال الصالحة)، تُصبح حياتنا مليئة بالفرح والسلام.
الصوم أيضًا يُعبّر عن علاقة خاصّة بالله تنعكس في حياتك، “فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً” (متّى 6: 18). والصوم يترافق أيضًا مع بذل الذات والتخلّي عن الأنانيّة، لأنّ الانسان بطبعه طمّاع. بالصوم نخرج من أنفسنا، لنتلاقى بالله ومع أخينا الانسان، وهو ما يؤكّد عليه إشعياء النبي في لغة غاضبة في الإصحاح 58: 1-12:
– الشعب يعاتب الله لأنّهم صاموا، وهو لم ينظر: لقد كان صومهم بدون رفقاء.
– الشعب يعاتب الله لأنّهم تذلّلوا ولم يلاحظ: لأنّ صومهم كان حُبًّا بالظهور.
– صاموا ولم يبارك: لأنّهم امتنعوا عن الطعام، وأبقوا الخصومات والنزاعات.
– صاموا في الرماد: بالظاهر من دون توبة حقيقيّة.
فأجابهم الله على فم إشعياء النبيّ: “أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ.” (إشعياء 58: 6- 7).
في الصوم نتذكّر أنّنا نصوم لنُشبع قلب الله ونفرح به، ولتشبع قلوبنا بالله وبخدمة أخينا الإنسان. الصوم هو رحلة مع المسيح، نموت فيها معه عن شهواتنا، لنقوم معه إلى حياة أفضل. آمين
- سبتمبر 15, 2017
- أكتوبر 17, 2017
- أكتوبر 17, 2017