القس كارل بارت: “هذا الإله ميت”! (ق. د. أشم ديتمرز)

القس د. أشم ديتمرز

أمين عام إتّحاد الكنائس المُصلحة في ألمانيا

أولاً: الإِخْوَة و الأَخَوَاتِ الأَعِزَّاء

في عام 1915 في منتصف الحرب العالميّة الأولى ، كان راعي الأَبْرَشِيَّة (القسيس) جالسًا في حَدِيقَةِ مَنْزِلِهِ تَحْتَ شَجَرَةِ تُفَّاح. إِنَّهُ مُقتَنِع: “هذا الإلَهُ ميت”. هذا الراعي القَسّ اِسْمُهُ “كارل بارث” وكان آنَذَاك يَعِيشُ في سويسرا حَيْثُ لا حرب هناك، ولَكِنَّ صَوْتَ قنابل الطائرات، وصُرَاخَ الضحايا، ورائحة الغازات السّامّة تصل إليه في حديقة الأَبْرَشِيَّة مكتسِحةً الحدود السويسريّة أثناء تحضيره لِعظته.

هُوَ مُحِقّ: هذا الإلَهُ ميت! يَتَقَدَّم الجُنُودُ  في فرنسا، أَلمانيا، والولايات المتّحدة  إلى ساحة الحرب ومعهم هذا الإلَهُ. إِنَّهُمْ يَجْلِبُونَ معهم إلهًا ميتًا. إله يَجْلبُ الموت إلى ساحة الحرب.

 ثانيًا: كارل بارث تَحْتَ شَجَرَةِ التُفَّاح، لا يستطيع التكلّم عن هذا الإله عندما يقرأ الجريدة، و لَكِنَّ عليه أنْ يَعِظَ أيام الآحاد ويجب عليه أنْ يتكلّم عن الله . فيجد حلاً جدليًّا ليساعد نفسه فيكتب: “نحن كلاهوتيين يجب أنْ نتكلّم عن الله. ولكننا كبشريّين لا نقدر أنْ نتكلّم عن الله. علينا أنْ نُدْرِكَ كلاً من اِلْتِزَامِنَا و عَدَمِ قُدْرَتِنَا ؛ وبهذا نمجّد الله. و لَكِنَّ أيّ نوع من الإله هو هذا الذي نُعْطِيهِ المجد؟ هل هو نفس الإله الذي درس عنه كارل بارث في دراساته اللاهوتيّة في برلين، توبنجن، وماربورغ؟

لقد آمن أساتذته اللاهوتيون بالكمال الذاتي للإنسان؛ لقد آمنوا أَنَّ الديانة المسيحيّة تَمْلِكُ قوّةً أخلاقيَّة تحريريّة. وستثير الكنيسة بتواصلها بحضارة العالم قضيّة ملكوت الله الذي أعلن عنه يسوع المسيح.

هذا ما تعلّمه كارل بارث أثناء دراسته في الإمْبرَاطُورِيَّة الألمانيّة. و لَكِنَّ عليه الآن أنْ يَقْرَأَ أسماء أَسَاتِذَتِهِ اللاهوتيين على لائحة الاستدعاء للحرب. في هذا الإعلان تَبْرِير للسلطة العسكريّة الألمانية وتَبْرِير لِجَرَائِمِ الحرب في بلجيكا:

قَدْ قِيلَ :” بدون السلطة العسكريّة الألمانيّة لانْدَثَرَتْ الحضارة الألمانيّة منذ زمنٍ بعيد. ولحماية الحضارة الألمانيّة، انْبَثَقَت السلطة العسكريّة في بلد موبوءٍ باللصوص وقطّاع الطرق منذ قرون طويلة. الجيش الألماني والشعب الألماني هُم واحد. صدّقونا … صدّقوا أنّنا سنحارب هذه الحرب كشعب حضاري وسنحارِب حتّى النهاية…. ولأجل هذا نحن نتعهّد بأسمائنا وشرفنا..” (1914)

و لَكِنَّ في الاستدعاء المُوَقّع من أساتذته اللاهوتيين، وجبّتْ التضحية بالقيم المسيحيّة مِن أجل حماسة الحرب. وكانت العِظات تُلِحُّ على المؤمنين أنْ يتكرّسوا ويتمّموا واجباتِهم. كان عليهِم أنْ يتألّموا ويصَّلُّوا بشجاعة إلى الله – صاحب السلطان – كي يحارب لأجلِهِم. كانت كلمات كَهَذِهِ تُسْمَعُ ليس فقط على منابر الإمْبرَاطُورِيَّة الألمانيّة بل في كل أنحاء أوروبا. كان الله يُعبَّأ لتقوية المعنويات القتاليّة لجنِودهم.

رابعًا: في القرية السويسريّة “سافِنْوِل Safenwil “، هَزَّ كارل بارث رأسَه أمام عِظات الحرب القوميّة. وكراعٍ مُصْلِح أَدْرَكَ ما قالته تعاليم “هايدلبرغ” الشفهيّة ( في قالب السؤال والجواب) عن الوصيّة السادسة :”لا تقتل” لم يعُد يؤمِن أَنَّ التقدّم الحضاري سوف يعجّل في قدوم ملكوت الله. ولَكِنَّ طريقة الكلام هذه عن الله ، كما تعلّمها خلال دراساته، لم يعد يتفوّه بها مطلقًا. ونما الشك أكثر فأكثر بأنّ هذا الإله يُمكِن أنْ يُسْتشار في كُلِّ شيء: لترسيخ عدالَتِكَ، أخلاقياتِك، شعبِكَ، حضارتِك، ديانتك. و لَكِنَّ هذا الإله لم يقدِر أنْ يمنعَ المؤمنين به عن مهاجمة بعضِهم البعض بالقتل والنار. إله أساتذته هذا كان صنمًا، إلهًا ميتًأ.

وبسبب حاجتِهِ لِيَعِظَ كلمةَ الله لجمهورِه واحِداً  تِلْو الآخر، يجلسُ كارل بارث وهو في التاسعة والعشرين مِن عُمْرِهِ في حديقة . تَحْتَ شَجَرَةِ التُفَّاح و كَأَنَّهُ في الجنّة: لديه كلُّ شيءٍ والله مِنهُ قريب. و لَكِنَّ كارل بارث يعرف أَنَّهُ مُذ طُردَ الإنْسَان من الجنّة لم يعد الأمر كذلك وبالتأكيد ليس في وسط الحرب العالميّة وليس في ساحات المعارك ولا في حديقة الأَبْرَشِيَّة السويسريّة.

خامِسًا: في عِظَة كانون الأوّل 1914، وجد الوصف التالي للطرد من الجنّة: ” والآن لقد أصبح الله غريبًا عنّا . هذا هو وضعُنا. لقد تصرّفنا بطريقة لم تُمَكّنْه مِن البقاء معنا. لقد كان وجودُنا بالقُرْبِ مِن الله حسنًا جدًا، يُمسِكُنا بيده القويّة ويُحِيطُنا بنورِ حقيقتِه وحمايةِ أمانته. لَمْ نتحمّل هذا القدر من “الحَسَن”. أردنا أنْ نعرفَ كيف نكونُ خارِجَ الله وخارِجَ مملكة سلامِه. بدأنا نتساءل : ألن نكونَ أكثرَ سعادة إذا اتّبعْنا طُرُقَنا الخاصّة. أردْنا أنْ نكون أكثر مِن أولاد الله، أردْنا أنْ نصبح عظماء، كائنات مستقِلّة، كالله بذاتِه، أردْنا أنْ نقضي لأنفسِنا ما هو الخير والشرّ. وتركَنا الله نذهب. كلا، بل تركَنا نقفُ حيثُ وضَعْنا أنفسَنا، وتابَع بدونِنا، وأصبح غريبًا عنّا.” (1914)

سادسًا: أخواتي وإخوتي الأعزّاء،

لسْتُ أدري إذا لاحظ هؤلاء الذين سمعوا عظة كارل بارث الصدمة التي وقعَتْ على راعيهم، مِن آيةِ “شجرة معرفة ” أكل! كلَّمَهُم في وسط الحرب العالميّة عن هذا الإله المُروِّع: ” لقد أصبح الله غريبًا عنّا. لقد ترك الإنسان واقِفًا حيث وضَعَ نفسَه – مرّة في جنّةِ عدن واليوم في أوروبا الحرب العالميّة .

بعد هذه الصدمة اللاهوتيّة، على الراعي إمّا أنْ يبقى صامِتًا أو عليه أنْ يغيّرَ مِهنتَه و لَكِن يختار كارل بارث أنْ يجلِسَ . تَحْتَ شَجَرَةِ التُفَّاح  في حديقة أبرشيته وفي يده: رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية وتفسيرات لها والنص اليوناني الأصلي وقاموس. وهكذا يبدأ بإعادة تهجئة الإيمان المسيحي لنفسه. يفسّر ويُحرّر الرسالة جملةً تلو الجملة .

يحاول بارث كَثِيراً أنْ يسمعَ بولس نفسَه يتحدّث إلينا عبر القرون فيصِل إلى الخاتمة : الله مختلِفٌ جدًّا. الله هو الله – هو ليس مَن يقوم بعملٍ حسب أفكارِنا، وهو ليس مَن يملأ الفراغ لأجل التبرير الذاتي. الله ليس مَن يمكن تشويشه بإنجازات الإنسان الحضاريّة .

سابعًا: تنمو المزيد والمزيد مِن ملاحظات كارل بارث معًا لتصبح كتابًا ضخمًا. وفي المقدِّمة تأتي الرسالة إلى أهل رومية. و لَكِنَّ ليس هناكَ مِن ناشِر يريد أنْ يطبعَ الكتاب. ” شيءٌ كهذا لا يُمْكِن تسويقُهُ.” هكذا يكتبون. أحد أصدقاء بارث، رجل الأعمال الثريّ “رودولف بستالوزي – Rudolf Pestalozzi ” سوف يغطي تكاليف الطباعة. وهكذا، منذ ما يُقارب المئة عام ، ظهرت تفاسير كارل بارث للرسالة إلى أهل رومية. وانفجرت كالقنبلة في ملاعب اللاهوتيين. كانت رسالة بارث لأهل رومية احتجاجًا على إله غير مؤذٍ كما كان يُبَشّر به في كنائس عديدة.

لا شيء كان كسابق عهدِهِ للكثيرين بعد الحرب العالميّة . لقد حزنُوا على الذين ماتُوا وجُرِحوا؛ كانوا يائسين وجِيَاع . انهارّتْ الأنظمة السياسيّة. وحتى الكنائس انتُقِدَتْ. لقد سايروا القادة وأحضروا اسم الله معهُم إلى الحرب. كان تبشيرُهم لا يُصدّق. وهذا بالضبط ما كَتب عنه كارل بارث لأحد أساتذتِه خلال الحرب: “كلُّ شيء مبرّر مع الله، ومع خبرة الله، ومع مشيئة الله، والتي عليّ أنْ أربُطُها مع نقيضٍ للّه، إن كنتُ لا أريد أنْ أتخلّى عمّا يعنيه اسم الله “.

كلُّ ما صدمَ كارل بارث في حديقة أبرشيّته ، صدم الكنيسة واللاهوت أيضًا . والكلمات التي وجدها كارل بارث في” رسالته إلى أهل رومية” كانت تمامًا ما كان يبحث عنه كثيرون. إنتهى الكتاب بعد أسابيع من الحرب العالميّة ، وتلقّاه القُرَّاء بالسَّخط والتعصّب الديني. لقد سأل كارل بارث أسئلةً في حديقة أبرشيّته والتي يجب الإجابة عليها الآن.

ثامِنًا: أصبح كتاب راعي أبرشيّة Safenwil عن الرسالة إلى أهل رومية شائعًا مما أدّى بكارل بارث إلى تغيير حديقة أبرشيته إلى كرسي أكاديمي بعد أنْ تمَّ تعيينه أستاذًا للَّاَهوت المُصْلَح فيGottingen عام 1921. وهنا كانت مهمّته أنْ يَجِدَ أجوبةً لكلّ الأسئلة التي صاغها. تَحْتَ شَجَرَةِ التُفَّاح ؛ ويَعْرِفُ بارث مدى صعوبة هذه المهّمَّة.

صَنَعَ بارث مهنتَه بأسئلته وأجوبته– أوّلاً في Munster، ثمّ في Bonn، حيث طَرَدَهُ النازيون، وأخيرًا في Basel . لقد أصبح كارل بارث اللاهوتي البروتستانتيّ الأهمّ والأكثر نفوذًا في القرن العشرين.

تاسعًا: أخواتي وإخوتي الأعزّاء،

وَعَظَ كثيرٌ من الرعاة المُصْلَحين عِظات خلال الحرب العالميّة الأولى ودعوا فيها إلى الثبات والتحمّل. فسّروا آلام الحرب على أنّها تضحيات لقضيّة أسمى وأكثر عدالةً. كما سار يسوع المسيح إلى الصليب دون تردّد، هكذا على الجميع أنْ يذهبوا إلى الحرب “كجنودٍ لسيّدِنا”. هل هذه الكلمات أراحت الناس وسط آلامِهِم في ذلك الوقت؟ لا أعتقد ذلك.

خلافًا لكثيرٍ من اللاهوتيين في زمانه، لم يجد كارل بارث راحةً أو تعزيةً في لاهوت التضحية الوطني ، بل على العكس ففي عام 1922 كتب:

“الكلام المقنِع عن الله يكون مُمْكِنًا فقط حيثُما يكون الوعظ المسيحي في وسط الأزمة، تحت الصليب. الخطاب المقنِع يكون مُمْكِنًا فقط عندما نسمع السؤال الذي يسألنا إياه الله وباستطاعتنا أنْ نُجيب عَنْهُ . لا أنْ نريد الهروب مِن هذه الأزمة”.

عاشرًا: إخوتي وأخواتي الأعّزاء،

نحن اليوم أيضًا في هذه الأزمة، إذا تحدّثنا عن الله فإنّ حقائقنا اللاهوتيّة قد ضعُفَتْ. أقصد، مثلاً، حقيقتنا منذ 1989، عندما انتشر الفيلم عن مظاهرة الإثنين في ليبزغ في العالم. وكان الأمل كبيرًا أنْ تُجمِعَ معًا صلوات السَّلاَم   بلدا مقسوما، أوروبا المقسّمة . بعد ثلاثين عامًا، ورغم كل التقدّم، نرى إنقسامات وعداوات جديدة. والكنائس تأخُذُ موقفًا دفاعيًا.

أقصد أيضًا الْاِجْتِمَاعَات المسكونيّة في الثمانينات حيث كانت “العدالة، السَّلاَم ، واِسْتِقامَةِ الخليقة” الرسالة الرئيسيّة. كانت التوقعات عالية حتَّى أَنَّ كنائس العالم ترفع أصواتها وكأنّها “تدافع عن الخليقة الخرساء التي لا تستطيع الكلام “و بعد ثلاثين سنة، فتاة في السادسة عشرة مِن عمرها تحمل يائسةً عبءَ هذه المَهَمَّة.

أنا متأكّد أَنَّ أسئلة كارل بارث تصلُ إليْنا اليوم: في الدين كلُّ شيءٍ ينتهي بدون الله. الله دائما صالحٌ كفاية كي يُنَفِّذَ و يتوّج ما يَأْخُذُهُ  الناس على عاتقهم.

آمل أَنَّهُ في مكان ما في حديقة الأَبْرَشِيَّة هناك راعٍ جالسٌ تَحْتَ شَجَرَةِ تُفَّاح ، يكتب كل الأسئلة التي تخطر بباله أو ببالها بالنظر إلى الله الذي أصبح غريبًا عنّا. آمين.

(تعريب الشيخة إلهام أبو عبسي)

اترك تعليقاً