لماذا ندرس اللاهوت؟ (د. جورج صبرا)

(القيت في الكنيسة الانجيلية المشيخية في الرابية، بمناسبة أحد كليّة اللاهوت يوم 13-5-2012).

أنا بدوري أودُّ أن اقدِّم شهادةَ طالب لاهوت، فالمؤمنَ مهما تعمّق في إيمانه ونال شهادات في علم اللاهوت يبقى تلميذا، لأنّ موضوعَ الايمان هو سرُّ هذا الكون – الله – الذي غورهُ لا يُسبر ولا نهايةَ للتبحّر فيه. مهما درسنا وتعلّمنا وتعمّقنا وحلّقنا نبقى تلامذة مبتدئين امام سرِّ هذا الكون، الإلهِ الازلي السرمدي، الذي مجدُه لا يُطال وقُدرته لا تُحد وحبُّه لا ينتهي.

خبرتي المتواضعة في مجالِ اللاهوت أنّ معظمَ الناس لا يدرون ما هو اللاهوت ولا يفهمون فائدته. لمّا كَنتُ ادرسُ اللاهوتَ جابهني الناس بمواقفَ عجيبةِ عندما علموا أنيّ اخترتُ اللاهوتَ اختصاصاً ومستقبلا.

صديقٌ من ايام المدرسة – وهو من غيرِ المسيحيين – التقاني بعد سنواتٍ على التخرّج وسألني ماذا اعمل. قلت له: “اتابع دراساتي العليا في علم اللاهوت.” فقال متعجباً: “تدرسُ اللاهوت؟! غريب، لكني لا اذكر أنك، في المدرسة، كنتَ متعصباً! فماذا حصل لك؟” ابتسمتُ، وحاولتُ أن اشرحَ له بإن الايمانَ والتديّنَ لا علاقةَ لهما بالتعصب، بل هما نقيضا التعصب، وأنَّ الانسانَ المسيحي لا يدرس اللاهوت لأنه متعصب بل لأنه مؤمن ويرغب في التعمق في فهم ايمانه.

مدربي في كرة المضرب، من كنيسة مسيحية شقيقة، لما علم أني ادرسُ اللاهوتَ دُهش وقال: “ما أصابك؟ أأنتَ خجول الى هذه الدرجة من الجنس الآخر؟ هل قررت ألا تتزوج؟” ضحكت وحاولت أن أشرحَ له بإنَّ دراسة اللاهوت في تراثنا الانجيلي لا تفرض البتوليةَ على طالبِ اللاهوت ولا شيءَ يمنع الزواج والحياة العائلية الطبيعية.

صديق للعائلة ذُهل لما علم أني اخترت اللاهوت مستقبلا ومجالَ عمل، فحذّرني قائلا، كما ردّد كثيرون في مسامعي لاحقاً: “اللاهوت ما بيطعمي خبز”. جوابي كان سريعا: كلُّ عمل شريف يُطعم خبزا ولا يجوع من يختار خدمةَ الرب في الكنيسة أو في تدريس اللاهوت، ولكن بالمعنى اللبناني التجاري لإطعام الخبز – اي جمعِ ثروة واقتناءِ سيارات فخمة والسفر الاستجمامي والثياب الباهظة، والتزلج في جبال سويسرا شتاءً والتنزه في حدائق فيينا صيفاً – طبعاً اللاهوت لا يطعم هذا النوع من الخبز. لكن مَنِ اختار اللاهوتَ عن قناعة يكون قد حسمَ امره من مسألة خدمة الله أو المال.

حادثة اخرى. احدى قريباتي – سيدةٌ انجيلية فاضلة – قالت لي لما رأت أني أقضي سنواتِ عديدةً في دراسة اللاهوت: “لماذا هذا الدرسُ كلهُّ؟ ماذا تفعل كلَّ هذه السنين في الخارج تدرس اللاهوت؟ ألا تعلم أن تلاميذ المسيح كانوا صيادي اسماك؟”

هذه المرة لم ابتسمْ ولم اضحكْ ولم يكن عندي جوابٌ سريع، بل صمتُّ وحملت هذا السؤال معي طوال دراستي اللاهوت. اكتشفت فيما بعد بان صمتي وعدم استطاعتي الجواب مردُّه الى أنَّ ثمة شيئاً من الصواب في موقف قريبتي الانجيلية. المسيحية في جوهرها سهلةُ المنال. لا يحتاج المرءُ الى دراسة ولا الى شهاداتٍ لكي يصيرَ مسيحيا. ليست المسيحيةُ دينَ النُخبة أو دينَ المثقفين والمفكرين فقط. والايمانُ لا يتطلب مستوى أكاديميا معيناً. جلُّ ما يحتاجه المرءُ لكي يكون مسيحياً هو انفتاحٌ متواضعٌ وشفافية لمحبة الله التي سُكبت في حياة يسوع المسيح وموتهِ وقيامته. المسيحيةُ بسيطة جدا: تعلْقٌ كياني بيسوع المسيح وقلبٌ من لحم طافح بالمحبة، وهذا لا يأتينا من الكتب بل من الروح القدس، من الله الساكنِ فينا.

هذا صحيحٌ وصائب، ولكنه لا يعني بان المسيحيةَ انتشرت وحوفظ عليها ودوفع عنها – بالفكر طبعا – بواسطة أُناس بدائيين أو أميين وجهّال. الشخصُ الذي له الفضلُ الأكبر في نشر المسيحية في بداياتها – أعني الرسولَ بولس – لم يكن بسيطاً ولا جاهلا. كان بولس رجلا مثقّفا متمكّنا من لغتين على الاقل، دارسا، دارساً للأسفار المقدسة ومتطّلعا على فكر عصره.

كاتبو الاناجيل لم يكونوا بسطاء وبلا ثقافة. الاناجيل التي كتبوها تُحف ما زلنا نستقصي معانيها حتى يومنا هذا. وهذا ينطبق على آباء الكنيسة الاولى الذين علّموا ودافعوا وجادلوا وشرحوا وحافظوا على الايمان. قادةُ الكنيسة ورعاتُها ومعلموها كانوا اناساً ذوي ثقافة عالية ولولا ذلك لما استطاعوا مجابهة الفكر اليوناني والعقل الروماني واختراقهما بالرسالة المسيحية.

والأهم من ذلك، أنى اكتشفت، حين تعمّقت في الاصلاح الانجيلي الذي من تراثه نحن آتون، أن أبا الاصلاح مارتن لوثر كان استاذَ لاهوت، وأن شرارة الاصلاحِ انطلقت من قاعة المحاضرات حيث كان لوثر يدرّس الكتابَ المقدس. لقد قامَ الاصلاحُ الانجيلي على أكتاف اشخاص درسوا الكتابَ المقدس وتعمّقوا فيه، علموه وشرحوه وكرزوا به، مستعينين في ذلك بأفضل ما وصلت إليه الثقافةُ الانسانية في ذلك العصر، أي أنهم كانوا طلاب لاهوت. الجبة او الثوب الذي يرتديه القسيس في كنائسنا ثوب أكاديمي وليس كهنوتي، يشير الى دارس للكتاب. دراسةُ اللاهوت ليست ضرورية لكي يكونَ المرءُ مسيحيا صالحاً، ولكنها ضروريةٌ لمن يودُّ أن يتعمق في ايمانه، لمن يرغبُ في أن يفهمَ ايمانه، لمن يريد أن يشهدَ ويكرزَ للآخرين ويحاورهم، وهي ضروريةٌ بالتأكيد لمن دعاه الله ان يرعى جماعة الايمان – معلماً وهادياً ومفسّرا.

دراسة اللاهوت لا مفرّ منها لمعرفة ما هو التعليم الصحيح، ما هو الايمان وما هو خرافة وانحراف. ينصح بولس تيموثاوس قائلاً: “اما الخرافات الدنسة العجائزية فارفضها وروّض نفسَك للتقوى”. أنّى للمرء ان يعرفَ ما هو خرافات عجائزية، إن لم يدرس ويتعمّق في فهم الايمان؟ “إلى أن اجيء”، يتابع بولس، “أعكف على القراءة والوعظ والتعليم”، وهذا ما يفعله طلابُ اللاهوتَ: يعكفون على القراءة والوعظ والتعليم، لأنهم يبتغون أن يكونوا خدام الكلمة.

أيها الأحباء،

التعليمُ اللاهوتي، اي دراسةُ كلمة الله بشكل منتظم وعلمي، ودراسةُ مسيرة الكلمة في التاريخ ورسالتها اليوم الى العالم، امر مهم جدا وملازم للهوية الانجيلية. وهو ليس فقط للقلة المدعوة لتصيرَ رعاةً وقساوسة، بل هو لجميع المؤمنين. صلاتنا الحارة ان يدعو الله ابونا فعلةً لكرمه من هذه الكنيسة، أن يمسَّ الروحُ القدس قلوب شبان وشابات ويضرمها بحب ربنا يسوع المسيح لتتبعه بلا رجوع، وابوابُ كليتنا – كلية اللاهوت للشرق الأدنى – وهي كليتكم اللاهوتية – تدرب خداما للكلمة منذ أكثر من 143 سنة – ابوابُها مفتوحة لكل من يرغب في التعمق في ايمانه وفي كلمة الله. وإن لم تأتوا إلينا، نحن مستعدون ان نأتي اليكم لنقيم حلقات تدريسية في الكنائس المحلية. هذا من ضمن خططنا للسنة القادمة.

وصيةُ يسوع العظمى والاولى أن نحبّ الربَّ إلهنا من كل قلبنا ومن كل نفسنا ومن كل فكرنا. دراسة اللاهوت، ايها الاحباء، هي في النهاية ممارسة لحبِّ الله من كل “فكرنا”. الفكر والعقل والفهم جزء لا يتجزأ من حياتنا المسيحية، وهو اداة للتعبير عن ايماننا ووسيلة لخدمة الرب. واللاهوت شهادة للحقّ ايضا – الذي هو يسوع المسيح الاله المتجسد والرب المخلّص، له المجد. آمين.

2 thoughts on “لماذا ندرس اللاهوت؟ (د. جورج صبرا)

اترك تعليقاً