ضرورات الإصلاح والتجديد الديني (القس جوزيف قصّاب)

يحتفل العالم الإنجيلي هذا العام بذكرى مرور 500 سنة على حدث الإصلاح الانجيلي. وقد دأبت الأوساط الأكاديمية على تسميته “الإصلاح الديني” لما رافقه من تأثيرات إيجابية على أوروبا والعالم في ميادين التعليم والثقافة والسياسة والنهضات القومية. هذا إن دلّ على شيء، فهو أنَّ أي إصلاح في الكنيسة يجب أن يُنقَل تأثيره الى خارج جدرانها حيث الكنيسة مدعوة.
لقد أخذت حركة الإصلاح الانجيلي ما كان متداولاً في أوساط الكنيسة الرسمية والجامعات وكليات اللاهوت بين النخبة ونقلته الى الناس. لأنه ماذا ينفع أن نتعلم عن الإيمان في مراكز الفكر المسيحي وكليات اللاهوت، إذا لم نجد الوسائل البناءة لنقله الى الناس داخل الكنائس وخارجها. كثيرٌ من الرعاة يحجبون الكثير مما تعلموه في كليات اللاهوت من حقائق كتابية ولاهوتية عن الإيمان المسيحي بحجة الخوف من الناس، أو الخوف عليهم. وفي ذلك إنما نبقي على الفجوة متسعة بين المنبر والناس، الأمر الذي يُعطِّل نهضة الكنيسة وإرساليتها في الداخل والخارج. هناك مقولة للرحابنة “المعرفة تهجِّر الطفولة”. وبحجب ما تعلمناه كخدام سرائر الله عن أعضاء كنائسنا، فإننا، دون أن نقصد، نبقيهم أطفالاً معرضين، إما لرياح الإلحاد أو لضيق الأفق الديني.
ما سوف أقوله اليوم عن التجديد والإصلاح الديني وضروراتهما ينطبق في جوانب عديدة على كل الأديان. لكني سوف أشدد في الغالب على ما هو مسيحي وإنجيلي بشكلٍ أخص. إنَّ وجود قادة الكنيسة من رعاةٍ وشيوخ فرصة ثمينة للتداول في موضوع مهم كهذا.
هناك مشترك بين الأديان يتلخص بأن شيئاً ما في داخلنا غير مكتمل، لذلك نجدنا نتوق الى الاكتمال. فلو أنَّ لكل سؤال جواباً جاهزاً، لما كانت الصلاة عنصراً مشتركاً بين كل الأديان. ولو أنَّ لكل ألمٍ دواء، لما كان هناك عطش الى خلاص. ولو أنَّ لكل فقدان ما طريقة لاستعادته، لما كان هناك اشتياق للسماء. باختصار، طالما أنَّ هذه الحاجات مستمرة، فإنَّ الأديان سوف تستمر. إنها جزء طبيعي من الحياة. فأن تكون إنساناً، هو أن تكون في اختبارٍ دائمٍ للحزن والموت والشك. فالدين، أي دينٍ كان، هو مدرسة لكي نجد معنى في وسط فوضى هذه الحياة. في المبدأ، إنه مستشفى لشفاء جراحنا الخفية، ومسيرةٌ تقدم لنا فرصة ثانية على الدوام.
“الإصلاح” أو “التجديد الديني” بالمعنى القاموسي، هو تحسين أو تعديل ما هو خطأ، أو ما هو فاسد، أو على الأقل ما هو غير كافٍ. إنه إعادة تشكيلٍ يهدف الى إصلاح تعاليم دينية.
غالباً ما يبدأ الإصلاح الديني حين تصل جماعةٌ دينيةٌ ما الى قناعة أنها انحرفت عمَّا تعتبره الإيمان القويم. وغالباً ما يبدأ هذا الإصلاح بواسطة قسم قليل من تلك الجماعة الدينية، فيواجه مقاومة من أقسام أخرى من نفس الجماعة. وعادةً ما يقوم هذا الإصلاح أو التجديد بإعادة صياغةٍ لتعاليم دينية طالما اعتبرت أنها حقيقة لا تقبل النقاش. هذا الأمر يقابَل غالباً بالإدانة والرفض، على أنه خطأ أو هرطقة أو كفر.
“التجديد الديني” أو “الإصلاح” هو دائماً إعادة توجيه للبدايات التاريخية لدينٍ ما في ضوء معطيات الحاضر وحقائقه. وعليه، فإن التغير الدائم والمستمر للمجتمع ومعارفه العلمية والإنسانية، تجعل من تعابير مثل “الإصلاح النهائي” أمراً غير ممكن، بل مستحيل. فمن الطبيعي أن تبقى التعاليم الدينية مستمرة بالإصلاح والتجديد بشكلٍ دائم. التغيير هو سمة الحياة، أما الثبات أو “السُبات” فهو من علامات الموت. تحضرنا هنا مقولة اللاهوتي البروتستانتي السويسري كارل بارت في عام 1947 “Ecclesia seper reformanda est”  أي ما معناه أن “الكنيسة عليها دائماً أن تكون مُصْلَحة”.
يدعى مقاومو التجديد عادةً “التقليديون” أو “الأصوليون”. أما أتباع الإصلاح فيدعون “المحدثون”. جميع هؤلاء هم حاضرون وموجودون في كل الأديان قديماً وحديثاً. لكن للإصلاح الديني منطلقات أساسية في جميع الأديان. إذ إنَّ نقطة انطلاقه هي أن الخالق وحده هو “الله”، وهو موضوع وأساس الإيمان، في حين أن الأديان بشكلها التاريخي المعاش إنما هي صناعةٌ بشرية. إن من الصعب على التقليديين والأصوليين أن يفرقوا بين الله وبين فهم البشر له؛ بين حقيقة الأديان في العمق وبين ما تراكمه من أدوار بشرية عبر تاريخها.
لكنَّ التجديديين ينطلقون من أن الإنسان كائنٌ غير مكتمل وناقص في كل شيء (المعرفة – الحكمة – القدرة على القرار)، كذلك هي أفكاره ووجهات نظره ومواقفه وممارساته. وعليه، يحتاج المنتوج الإنساني الى التجديد والإصلاح المستمرين في ضوء المعارف والاكتشافات المستجدة، الى جانب الخبرات السابقة.
وغالباً ما تتواجه ضرورات الإصلاح والتجديد الديني مع مُعيقاتٍ ثلاث أساسية، من بين غيرها من الأمور أخرى. تعتبر هذه المعيقات نفسها حقول الإصلاح المطلوب، لكونها تتسرب الى الأديان عامةً فتصيبها بالجمود:
الأصولية:
تم استخدام تعبير “أصولية” للمرة الأولى لتعريف بعض المجموعات من الانجيليين في بدايات القرن العشرين كوصف لهؤلاء الذين يرفضون الحداثة. كيرتس لي لوز، محرر مجلة معمدانية تدعى “Whatchman-Examiner) في عام 1920 هو من شجع مجموعات المحافظين أن يتبنوا لأنفسهم عبارة “أصوليين”، رغبةً منه أن يزيل التأثير السلبي لتعبير “محافظين” آنذاك. منذئذٍ تحول تعبير “الأصولية” كوصفٍ للمحافظين الأكثر تطرفاً. وفي أوائل السبعينات من القرن العشرين بدأ تعبير الأصولية مرتبطاً أيضاً بالسلوك السياسي الذي يميل الى العنف، حتى غدا اليوم لصيقاً بالمجموعات الاسلامية الجهادية.
الأصولية في العمق هي نوع من أنواع الشخصية الفردية التي لها القدرة أن تجتذب مجموعات بشرية حولها. لذلك نجد هناك أصوليات في مختلف حقول الحياة، أسوةً بالأصوليات الدينية. فالأصوليون هم أناس يُصرّون على فهم مبكر للدين ويعتبرون هذا الفهم غير قابل للنقد، ويستحق أن يفرض – ليس فقط عليهم – بل على الآخرين أيضاً، دون أن يُفسحوا المجال لتأوينه من خلال الاكتشافات والمفاهيم المعاصرة، أو حتى لنقاشه مع أي منطقٍ معارضٍ آخر. يؤمنون أن فهمهم للدين ملائم لأي مجال أو ثقافة أو عصر أو مجتمع. إنهم موجودون في كل الأديان، مسيحيون ومسلمون ويهود.
التقليد:
إن عبارة “التقليد” تأتي من أصل يوناني وتشير الى “تعليم يُسلَّم من جيل الى جيل”. وفي الكتاب المقدس يمكن أن تأتي العبارة بمعنى إيجابي أقرب ما تكون الى وصية إلهية، كما في (1كورنثوس 11: 2 أو 2تسالونيكي 2: 15؛ 3: 6). وإما أن تأتي بمعنى سلبي مؤذٍ يشير الى تقاليد بشرية كما في (متى 15: 3 أو كولوسي 2: 8). بهذا المعنى الأخير، يتحول التقليد البشري الى مفاهيم شائعة تتراكم مع الزمن لتصبح مقبولة كأنها تأتي من الله نفسه، فتغدو عبئاً على الناس تسلبهم حريتهم في خدمة الله وطاعته.
إن التقليد جزء هام من أي دين. إنه أحد المرجعيات الهامة التي تقف الى جانب مرجعيات الدين الأخرى مثل (النص المقدس المكتوب – ومنطق العقل – والخبرة الروحية والإيمانية). لكن التقليد غالباً ما يتحول عند بعض الجماعات الدينية الى شيء مقدس جامد يتساوى في قيمته مع النصوص المقدسة، كما هو الحال اليوم بالنسبة للجماعات الاسلامية (تقليد ابن تيمية)، أو كما في التقليد المسيحي الشرقي والكاثوليكي الغربي.  يجدر بالذكر هنا أنه كان للإصلاح الانجيلي في القرن السادس عشر موقف منفتح ومتوازن وعقلاني تجاه أهمية التقليد، إذ قبلَ المصلِحون الأوائل كل ما يتفق مع الكتاب المقدس من تقليد، فيما أهملوا ما لا يتفق معه. لكن سرعان ما عَلُقَتْ بعض الجماعات الانجيلية هي الأخرى بتقليدها المستجد، فأصبح مع مرور الزمن مرجعاً لا يُناقَش، غير قابل للتطوير أو التجديد في مقولاته.
عندما اتهم الكتبة والفريسيون تلاميذ يسوع بأنهم يتعدون تقليد الشيوخ في متى 15، أجابهم يسوع بمثال قائلاً: “وأنتم أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم!!”. لطالما كان التقليد الديني عائقاً للتجديد والإصلاح في الأديان حيث تعذر على الناس التفريق بين التراث الديني للبشر وإرادة الله.
التفسير الحرفي للنص المقدس:
لقد حذرنا العهد الجديد مراراً على فم يسوع من خطر التفسير الحرفي. هناك أمثلة عديدة في العهد الجديد ترفض التفسير الحرفي. نقرأ في الأناجيل أمثلةً عديدةً عن أناسٍ أخفقوا في أن يفهموا يسوع، فقط لأنهم فهموه حرفياً. فعندما تكلم يسوع عن هيكل جسده (يوحنا 2: 21) فهم سامعوه من اليهود أنه كان يتكلم عن بناء هيكل أورشليم. وقد كان هذا الفهم الحرفي بالذات أحد أسباب قتل يسوع (متى 26: 61). كذلك في قصة نيقوديموس نجد أن فهمه الحرفي جعله يعتقد أن ولادته ثانية تعني أن يدخل ثانيةً بطن أمه (يوحنا 3: 4). وعندما تحدث يسوع الى السامرية عن ينبوع الماء الحي، فهمت السامرية ذلك حرفياً فطلبت أن تشرب (يوحنا 4: 10-15). هذه الأمثلة وغيرها كافية لكي تحذرنا من القراءة الحرفية التي تقود الى نتائج قاتلة.
من أين أتتنا تلك الحرفية الكتابية؟ من أين نشأت عادة العقل هذه، التي جعلت بعض المسيحيين الانجيليين أن يقرؤا الكتاب المقدس بطريقة جامدة؟ لا يذكر قانون إيمان الكنيسة النيقاوي، الذي أتى في القرن الرابع، شيئاً عن كيف نقرأ الكتاب!!  كما أن أفضل ما نقرأه في الكتاب المقدس عن الكتاب، هو ما قاله بولس الرسول الى تيموثاوس أنه “موحى به”، (في اللغة الأصلية “من نَفَسْ الله”). إنه نفس التعبير المذكور في الخلق. آدم نفسه كان من نفس الله.
الكتاب المقدس هو كلمة الله المكتوبة كما نؤمن. لكن هذا لا يعني أبداً أن نقرأها بحرفية جامدة. فالمسيحيون يؤمنون مثلاً أن الكنيسة هي أيضاً “جسد المسيح”. هل هذا يعني أنها خالية من صعوبات ومشاكل، أو أن ممارساتها وطقوسها لا تخلو من الرمزية المنفتحة على التجديد.
إن مشكلة الحرفية الكتابية هي مشكلة تاريخية. مؤخراً قال لي أحد الرعاة الإنجيليين: “قسيس ما تتعذب.. أنا عندي المسيح والكتاب المقدس متل بعضهن”. لا أدري إن كانت تلك العبارة تأتي من التزام عاطفي بقضية الكتاب المقدس، أم أنها مقولة لا زالت تدرّس في بعض كليات اللاهوت وتعلم في الكنائس. لكني مدرك أن “تأليه” الكتاب المقدس إنما أتى كإحدى النتائج السلبية للإصلاح الانجيلي الراديكالي. فقبل عصر الإصلاح الانجيلي كانت السلطة ومرجعية التعليم والعقائد جميعها تأتي من الكنيسة الهرمية والتقليد الكنسي. البروتستانت الأوائل احتاجوا الى سلطة أعلى للرجوع إليها، فكان الكتاب المقدس.لكن الإصلاح الراديكالي لاحقاً أخذ اتجاهاً متطرفاً من إعلاء مرجعية الكتاب المقدس في وجه بابوية القرون الوسطى، فجعلوا من الكتاب دون قصد قلب الإيمان، بدلاً من أن يكون “الله الذي ظهر في الجسد” هو قلب الإيمان. عبارات مثل تلك التي أتت على لسان أحد اللاهوتيين الراديكاليين “الكتاب المقدس فقط هو دين الانجيليين” أو “الكتاب المقدس ليس كلمة الله فقط لكنه كلمات الله”. عبارات كهذه لا تمت الى حقيقة الإصلاح الانجيلي، وهي غريبة عن أي دراسات كتابية أو لاهوتية متعمقة ولو قليلاً، ناهيك بالعلم والمنطق.
مدارس التفسير المتأتية من الإصلاح الإنجيلي الأساسي فهمت التعاطي مع الكتاب المقدس على أنه رحلة نضوج مع الله وفي الله ومن أجل الإنسان. هذا الفهم جنّب الكتاب المقدس أن يكون كتاباً لقوانين الجزاء أو علم الطبيعة والفيزياء. إنه كتاب فريد ومدهش عن تعاملات الله مع البشر لكي يريهم محبته التي اكتملت في المسيح يسوع. الإصلاح الانجيلي جعل من الكتاب شهادة إعلان متنوعة وخبرة إلهية إنسانية تأكدت في يسوع المسيح الإله الإنسان. هذا الأمر بالتأكيد هو تهديد للأصولية والحرفية والتقليد الجامد.
إن الحرفية الكتابية التي لا زالت حيةً الى يومنا هذا، غدت مرضاً دينياً أصاب كل الأديان دون استثناء. إنها اليوم الإبن الشرعي الذي نما وترعرع بين أحضان المواجهة الشرسة بين الراديكالية الدينية المتطرفة من جهة، والليبرالية الدينية المتفلتة من عقالها من الجهة الأخرى. وعليه، فإن الإصلاح والتجديد الديني يقتضي من الأديان جميعاً رفض الإثنين معاً، وإلا فالعالم مقسوم الى فسطاطين – على حد قول أسامة بن لادن – فسطاط الحق وفسطاط الباطل، وكأن لا خيار لثالث.
باختصار، هناك شروط ومتطلبات للإصلاح والتجديد الديني علينا أن نسلكها ونتبناها، وذلك بسبب رحلة الحقيقة التي تسلكها كل الأديان على العموم ، إضافةً إلى ما نواجهه من تحديات معاصرة تهدد مجتمعاتنا بالإلحاد أو اللامبالاة أو بما عبر عنه أمين معلوف “بالهويات القاتلة”.
إن الإصلاح والتجديد الديني يحتاج الى:
1-     توفر الشروط المعرفية والكتابية واللاهوتية، الى جانب الإلمام بالمكتشفات المعاصرة.
2-     الاستعدادان النفسي والعملي لدفع ثمن ومتطلبات التجديد والإصلاح الديني.
3-     تحسس ضغط الحاجتين الروحية والمجتمعية الى التجديد الديني.
ختاماً، الكتاب المقدس هو الكنز الذي تركه لنا الروح القدس مكتوباً بيد القديسين المتعددي الشخصيات والثقافات واللغات. إنه نافذتنا الوحيدة الى المسيح وخبر الرب. أناجيله الأربعة المصطفَّة جنباً الى جنب بتمايزاتها السردية والأدبية واللاهوتية تجعلنا نبتعد عن الحرفية، لنتمسك بالحدث الواحد عن الرب الواحد وموته وقيامته. إنَّ حقيقة الله الثالوث لا يمكن احتواؤها إلا رمزياً من خلال لغات البشر. حقيقة الله لا يمكن أن تُختَزل الى كلمات في الكتاب المقدس، أو الى مقررات المجامع الكنسية التاريخية، أو الى اعترافات الإيمان على مر العصور، أو الى الـ 95 بنداً المعلقة من لوثر على بوابات كنيسة فتنبرغ. وحده شخص الرب يسوع الذي من الناصرة استطاع أن يحتوي سر الله وجوهره، لأن “فيه حلّ كل الملء”. وليستمر الإصلاح والتجديد.

اترك تعليقاً