شفاعة المسيح وشفاعة القدّيسين (القس يعقوب صبّاغ)

قد يظنّ البعض أنّ رفض الإنجيليّين لشفاعة القدّيسين هو أمرٌ مبنيٌّ على تجميعٍ انتقائيّ لآياتٍ مِنَ الكتاب المُقدّس، مثل:
“يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا.” (1 يوحنّا 2: 1-2)
وأيضاً 1تيموثاوس 2: 5- 6: ” لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ.” (1 تيموثاوس 2: 5-6)
لكنّ الأمر يزيد على تجميع آياتٍ، فقراءتنا للكتاب المقدس يجب أن تكون شموليّة غير انتقائية. بداية وكما يبدو لي أن الطرفَيْن، الإنجيليّين وغير الإنجيليّين، يستخدمون نَفْس التعبير (الشفاعة) ليقصدوا بها أمرَيْن مُختلفَيْن.
إنّ الشفاعة بالنسبة للإنجيليّين مُرتبطةٌ بغفران الخطايا، وإرث الملكوت لسبب فداء وكفّارة المسيح. فالشفاعة مرتبطةٌ بلاهوت الكفّارة ومصالحة المسيح. مِنْ هذا المُنطلق ارتبطت الشفاعة بشفاعة المسيح، لكي نرث الملكوت: “قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.” (يوحنّا 14: 6)
إنّ مفهوم الشفاعة والوساطة بسيط: هناك طرفان مختلفان بحاجة لمن يتوسط بينهما ليقتربا من بعضهما البعض، ولِتُصلح الأمور بينهما. لكي نعرف كيف أنّ المسيح شفيعنا الوحيد، علينا أنْ ننطلق من البداية. نحن نعلم أنّه لا أحد يتبرّر قُدام الله من ذاته: “إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ” (رومية 3: 23). لكنّنا نتقدّم أمام الله الآب بثقةٍ عالمين أنّ المسيح يشفع فينا، أيّ أنّه يتوسّط بيننا وبين الآب.
بسبب سقوط الإنسان في الخطيئة أصبح الانسان بعيدًا عن الله، لكنّ الله يريد خلاصنا. غير أنّنا خطاةٌ وأجرة الخطيئة موت. بل وإنّ خطيئتنا تمنعنا من المثول أمام القدوس الذي لا يساكنه شرير. فإن عاقَبَنَا الله على خطايا فهو عادلٌ ومحقٌّ، وقصاصنا ليس بجائرٍ لأنّنا أخطأنا تجاه خالقنا ونحن نستحقّ العقاب، فالله بار وقدوس. وهذا ما يشرحه القديس أمبروسيوس عن سبب الحاجة إلى الكفّارة… لأنّ خطيئة الإنسان هي في حق الخالق، حيث أنّ الإنسان بخطيئته تجاه الله أهان كرامة الله. إذًا، إنْ قوصِصْنا فالله عادل، لكن كيف لنا أن نختبر محبته ورحمته؟ وإن قَبِلنا الله ببساطةٍ في ملكوته دون عقاب، فنحن نختبر رحمة الله ونعمته. لكن كيف لنا أن نقول أنّ كرامة الله قد حُفِظت أو أن الخطيئة حوسبت؟
في الحقيقة، ما نراه في عمل المسيح الكفّاري هو جمع لهذه المعادلة التي تبدو مستحيلة. المسيح حمل عنا العقاب، فاختبرنا رحمة الآب ومحبته، وتم الحِفاظ على قُدْسيّة إلهنا إذ أنّ الخطيئة أُدينت وعوقبت بالموت، حيث أنّ المسيح صُلِب عنّا.
عندما نتكلّم عن الوسيط فعلينا أن نتذكّر إذًا أنّه ينبغي أن يُدفع ثمن ما كسره المُخطئ. فبهذا الشكل يكون يسوع شفيعنا الوحيد لنَيْل الخلاص، إذ أنّه دفع ثمن خطايانا (لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ.” 1كورنثوس 7: 20) و (عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ.” 1 بطرس 1: 18 – 19).
على هذا الأساس نقول بأن يسوع المسيح هو شفيعنا الوحيد، حيث أنّ رب المجد قال في يوحنا 14: 6: “أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.” كما ذكرت أعلاه.
وحقيقة الأمر أنّ الإنجيليّين يحترمون عقائد الكنائس الشقيقة وإخوتهم في الإيمان، لكنّهم لا يَقْدِرون أبدًا المُساومة في موضوع الشفاعة، حيث أنّهم يرَوْن أنّ جوهر عمل الابن هو الفداء والخلاص، لسبب أنّه قدّم نفسه كفّارةً مُتشفّعًا فينا لنَرِث الخلاص. فإن كان هناك أيّ شخصٍ مهما سمت قُدسِيّته يُشارك في الشفاعة، وقادرٌ أن يُحضرنا أمام الآب بلا لوم، فإنّنا نجعل موت المسيح الكفاري بدون ثمن. أيّ أنّه مات رخيصًا بل وهدرًا. إن كان هناك طريقة أخرى تُقرّبنا مِنَ الله، فَلِم مات المسيح؟ نحن ننسى أنّ سبب مجيء المسيح في المقام الأول هو ليصالحنا مع الآب السماوي، فبه نلنا مُصالحةً وكانت كاملةً لأنّه دفع ثمن ما كسرْناه بدمه كما يقول الكتاب: “إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا. وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ.” ( 2كورنثوس 6: 17 – 19). بمعنى آخر، عندما ألتجئ إلى شفاعة طرفٍ آخر غير المسيح، كأنّني أقول بأن شفاعة المسيح غير كاملةٍ وغير كافية.
أمرٌ آخر لا نقدر أن نغفله وهو أنّه عندما نصلي لأي قدّيس فنحن نولي أو نعزو له خصائص ربوبيّة وإلهيّة، وهو الذي كان إنسانًا. فنحن نفترض إذًا أنّه الآن يسمع وينظر ويستجيب ويؤثّر على رأي الله في قبولنا.
ما يُخيف الإنجيليّين، أو ما يخيفني أنا على صعيد الرأي الخاص، في هذا الصدد هو صورة البعض عن الله: الإله المُخيف المُعاقِب والذي يَقْتصّ… وقد نبعت هذه الصورة من قراءة أو تفسير خاطىء لبعض النصوص مثل عبرانيين 12: 29: ” لأَنَّ «إِلهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ».”. لكنّنا عندما نقرأ قصة يسوع المسيح، نكتشف أن المسيح لم يكن له أين يسند رأسه وهو يجول باحثًا عنّا ليجدنا وينقذنا. ترك موطنه وأمّه العذراء، وتحمّل المهان والعار، لكي يجدنا حتّى أنّه وهو الإله نزل إلى وحل أقدام التلاميذ. وهو الراعي الصالح الذي أخذ زمام المبادرة في البحث عن الخروف الضال، بِغضّ النظر عن ثمن تركه للمكان الأمين وسعيه وراء الخروف في المكان الموحش. لذلك عندما ندعو لآخر أنْ يُخلّصنا أو يتشفّع فينا، فكأنّنا نُقلّل من مِقدار محبّة المسيح لنا، ونساوم على تعبه وسعيه، بل ولهاثه وراءنا نحن الخراف الضالة وهو الراعي الصالح.
ما هو دَوْر القدّيسين إذًا؟ أفضل ما يجاوبنا هنا هو نصّ رسالة العبرانيين فهو يتكلم بوضوح واختصار: “اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ.” (عبرانيين13: 7). علينا الاقتداء بإيمانهم وكيف أنّهم تمسّكوا بخلاص المسيح.
أستغرب عندما يُشير البعض إلى معجزة قانا الجليل (يوحنا 2) حيث أنّ يسوع استجاب لطلبة العذراء في تحويل الماء إلى خمرٍ، عِلمًا أنّه لم يكن يريد ذلك في المقام الأوّل، وذلك عندما قال لها: “مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ” (يوحنّا 2: 4). لكنْ إنْ قرأنا بهدوءٍ فسنُدرك أنّ موقف يسوع من المعجزات كان دومًا هكذا. فقد كان المسيح يريد الناسَ أن يُقْبِلوا إليه لكلامه وليس فقط لمعجزاته. في الحقيقة إنّنا نرى هذا الموقف في ذات الإنجيل وفي ذات القرية، أيّ شهادة يوحنا، عندما امتعض يسوع لطلب معجزةٍ لكنه فعلها بدافع الرأفة. لنقرأ النص من يوحنا 4: 46 – 50:
“فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضًا إِلَى قَانَا الْجَلِيلِ، حَيْثُ صَنَعَ الْمَاءَ خَمْرًا. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ابْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ. هذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ، انْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ابْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ» قَالَ لَهُ خَادِمُ الْمَلِكِ:«يَا سَيِّدُ، انْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ابْنِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«اذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ».
إذًا، قام يسوع بعمل عجائبيّ نزولًا عند طلب الأب، لكنّني لم أسمع أنّ أحدًا تشفّع بهذا القائد أو هذا الملك، كما يصفه النص، عِلمًا أنّ موقف يسوع في المعجزتين واحد! هل لأنّ يسوع نزل عند رغبة هذا الإنسان وطِلْبته أجعل منه شفيعًا لي؟ أو على أن أتّعظ وأضع إيماني بيسوع كما فعل هذا الإنسان؟ علينا إذًا أنْ نكون أكثر وضوحًا في أخذ العبرة التي يُقدّمها النص الكتابي. ولكن كما يبدو فللكثير منا نظرة مسبقة لكيفيّة عمل الله، ونحاول أن نلوي النص ليناسب فكرنا.
كما أنّنا إنْ نظرنا إلى قصّة مُعجزة قانا سنرى أنّ هدف المعجزة لم يكن قط لتفادي احراج نفاد الخمر، أي كما طلبت العذراء، بل كما يقول يوحنا في نهاية نص المعجزة: “هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ” (يوحنّا 2: 11). أي أنّ يسوع صنع المعجزة ليُظهر مجده قُدّام التلاميذ ليعرفوه.
عُذرًا للإطالة، لكنّي أودّ الختام بهذه القصة: يُحكى أنّ بطرس كان واقفًا على باب الجنّة حاملًا دفتره وسجلّه بيده، ليمرّ الملاك ميخائيل. فيسأله الملاك: كم انسانًا دخل الملكوت اليوم؟ فيجيبه بطرس: 500 انسان. فيخبره الملاك أنّ هناك الآلاف في الداخل وقد دخلوا اليوم، فعليه أن ينتبه، وهو المعروف عنه أنّ المفاتيح في يده. تفاجأ بطرس وأراد أن يعلم كيف استطاعت تلك الألوف الدخول. فإذ به وهو يبحث، يرى يسوع عند السور مُنحنيًا حاملًا صليبه، والناس تتعكز عليه وهي تقفز للداخل وتسمعه يقول: ادخلوا فبطرس لن ينتبه! هذه هي نعمة المسيح، الرحمة لمن لا يستحق! أترككم مع هذه الشهادة الأخيرة:
“لأَنَّ الْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ. فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضًا أَنْ يَمُوتَ. وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ الآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ! لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ! وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا بِاللهِ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي نِلْنَا بِهِ الآنَ الْمُصَالَحَةَ.” (رومية 5: 6-11)

اترك تعليقاً