شجرة عائلة يسوع (الواعظ الياس جبّور)

كثيرٌ من النّاس – في فصلي المجيء و الميلاد – يعطون أهميّة كبيرة لشجرة الميلاد… فعلى الرّغم من أنّها رمزٌ عالميٌّ دنيوي نشأ في ألمانيا، و ليس له علاقة مباشرة بقصص الميلاد الكتابيّة، نرى أنّ معظم المسيحيّين يهتمون فيها و بزينتها، بكراتها و بأضوائها… و ينسون مشهد المهد و ميلاد الرّبّ يسوع المسيح في الحظيرة مع يوسف و مريم العذراء و مع الرّعاة أو المجوس و أيضاً الماشية… و الّذي بالكاد يُرى لأنّه صغير نسبيّاً و يوضع بالعادة مهمّشاً أسفل الشّجرة العظيمة.
إن أردنا أن نربط الشّجرة بصورٍ كتابيّة لقصّة الميلاد، فيمكن أن نربطها بـ “شجرة الحياة” في جنّة عدن (تكوين 2: 9؛ 3: 22؛ رؤيا يوحنّا 2: 7؛ 22: 2)؛ أو برمز “الشّجرة الأخرويّة” الّتي ستجمع كلّ المؤمنين و المخلوقات تحت أغصانها (حزقيال 31)؛ أو ممكن أن نربطها بالثّمر و الإثمار الرّوحيّ، و لذلك نحن نعلّق عليها كريّاتٍ حمراء و ذهبيّة دلالةً على الثّمر!
و لكن هل ممكن أن نربط الشّجرة بقصّة الميلاد؟!
نعم… ممكن أن نربطها، و لكن بطريقة مختلفة: شجرة عائلة الرّبّ يسوع المسيح (متّى 1: 1-17). ربّما نقوم نحن بتجاهل هذا النّص لدى قراءتنا لقصص الميلاد و ذلك لاحتوائها على قائمة طويلة من الأسماء المملّة و الصّعبة القراءة. و لربّما نقول لأنفسنا: “لا شيء ممكن أن نتعلّمه و نُعَلِّم مِنهُ من هذا المقطع الجاف.” و لكن بالنّسبة للبشيريّ متّى، و الّذي كتب لمسيحيّين من أصلٍ يهوديّ في زمانه بعد أن دُمِّرَ هيكل سليمان الثّاني و حُرِقَتْ أورشليم على أيادي الإمبراطوريّة الرّومانيّة الغاشمة، اهتمامٌ خاص بذكر شجرة عائلة يسوع و نسبه في بداية إنجيله.
ففي أوقات الأزمات، في أوقات الحروب… في أوقات الظلام و الشر، الألم و الموت  علينا أن نتذكّر هويّة مسيحنا، و بالتالي أساس هويّتنا نحن كمسيحيين أتباع يسوع بن مريم الناصري.
هذه السّلسلة، سلسلة نسب يسوع المسيح، توفّر الجذور لمن ليس له جذور.
هناك العديد من الدروس لنتعلّمها من شجرة عائلة يسوع لكننا سنحصر دراستنا الآن بما يناسب الوضع لعيد الميلاد هذا و في أيّامنا هذه، الآن و هنا.
متَّى يسمّي شجرة العائلة هذه أو سلسلة نسب يسوع بـ “كتاب ميلاد يسوع المسيح” كما يُذكَر في ترجمة الفاندايك بين أيدينا و لكن بالترجمة الدقيقة للّغة الأصلية للنص فهو يُدعى: “كتاب تكوين يسوع المسيح،” أي كما يُدعى سِفر التّكوين في العهد القديم. أي متّى يريد من كتابه أن يكون قصّة التكوين الجديدة: قصة البدايات الجديدة و الخليقة الحقيقية الجديدة في يسوع المسيح.
متّى البشيري يُسّهل علينا الأمر جداً فهو يُقسّم كتاب تكوين يسوع المسيح إلى ثلاث أقسام أو إلى ثلاث حقبات؛ و في كل حقبة يقودها ذات الرّقم اللّاهوتي المميّز 14 كما تقول الآية (17):
فَجَمِيعُ الأَجْيَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ إِلَى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى الْمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً.”
  1. فيسوع المسيح هو أولاً ابن ابراهيم:
و لكن من هو ابراهيم؟
هو أب المؤمنين، هو أب شعب الله، أول آباء العهد القديم و تاريخ شعب الله… لماذا؟ لأن الله ابتدأ العهد مع شعبه من خلاله و قطعه معه، فيسوع هو ابن ذلك الأب الأول و بالتالي هو ابنٌ حقيقيٌ لشعبه من دمٍ صافٍ، و هو وحده الّذي بإمكانه تحقيق متطلّبات ذلك العهد. نُضِفْ على ذلك أنّ الله أعطى ابراهيم مواعيداً لهذا العهد عندما قال له: “سأكثر نَسلك كعَدد النُّجوم” (تكوين 15: 5؛ 17: 2-6) و “فيك وفي نسلك ستتبارك الأمم” (تكوين 12: 1-3؛ غلاطية 3: 8). فيسوع هو وريث ابراهيم و ممثّل شعب الله و خُلاصَةُ تاريخه وحده الذي سيقدر على منح و تحقيق هذه الوعود لشعبه. “يسوع المسيح ابن ابراهيم” تدلُّ على الحقيقة أن يسوع هو ابن شعبه و أيضاً ابنٌ لكل الأمم والإنسانية جمعاء. فيبتدأ إنجيل متّى من قصّة ميلاد المسيح مع زيارة الأمم المجوس (متّى 2: 1-13) و ينتهي بمأموريّة يسوع العُظمى لتلاميذه بأن “يذهبوا و يتلمذوا جميع الأمم معمّدين إيّاهم باسم الآب و الابن و الرّوح القدس” (متّى 28: 19). فلا دين و لا طائفة و لا انتماء حزبي و لا تعليم و لاجنسية  يميّزه و يبعده عن أخيه الإنسان المحتاج له.

 

  1. يسوع هو ابن داود:
“ابن داود” هو اللقب الصحيح لوريث العرش الملوكي على شعب الله. كما يقول ارميا: “هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُقِيمُ لِدَاوُدَ غُصْنَ بِرّ، فَيَمْلِكُ مَلِكٌ وَيَنْجَحُ، وَيُجْرِي حَقًّا وَعَدْلاً فِي الأَرْضِ.” (إرميا 23: 5). وكما يقول النّص الشّهير في فصل الميلاد من اشعياء: “لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ.” (إشعياء 9: 7).
 داود هو أهم ملوك شعب الله في التاريخ؛ هو الملك النموذج، و كلّ الملوك السّابقين و اللاحقين يُقَاسون به. و ’يسوع ابن داود‘ هو ذاك الملك المنتظر على نمط داود، بل و أعظم منه؛ هو ’الأصلُ البازغ من يسّى أبو داود؛‘ هو المسيّا أو المسيح أي الممسوح ليكون ملكاً على شعبه كما في العهد القديم. و لذلك – و بالأخص في إنجيل متّى – هناك إشارة ساخرة نقديّة في آخر الإنجيل إلى “ملوكيّة يسوع،” أثناء محاكمته و صلبه: فعندما مثل يسوع أمام بيلاطس سأله: “أأنت ملك اليهود؟” (متّى 27: 11)، و من ثم العساكر الرومانيّون بكامل الكتيبة اجتمعوا عليه فعرُّوه و ألبسوه رداءاً قرمزياً و ضفروا إكليلاً من الشوك و وضعوه على رأسه، و قصبةً في يمينه. و كانوا يجثون أمامه و يستهزئون به قائلين: “السّلام يا ملك اليهود” (متّى 27: 27-29). علّته على الصليب قُرِأت: “هذا هو يسوع ملك اليهود” (متّى 37). و حتى رؤساء الكهنة و الكتبة و الشيوخ أهانوه و هو معلّق على الخشبة: “إن كان هو ملك اسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به” (متّى 27: 42). “يسوع ابن داود” إذاً هو اعتراف أن يسوع هو ملك، و ملكٌ على نمط داود، و الذي سيسود على عرشه إلى الأبد.
  1. يسوع هو ابن السّبي:
متّى يلقِّب يسوع بأسماء أجداده الكبار: ” كتاب تكوين يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم” (متّى 1: 1). و لكن سنحاول هنا أن نركّز على الجد الثالث. فصحيح أن يسوع هو ابن ابراهيم (أب شعب الله و العهد و المواعيد و الأمم)، و هو ابن داود (أعظم الملوك)، إلّا أنّ يسوع المسيح هو أيضاً ابن السّبي، ابن السّبي البابلي. في سنة 587 قبل الميلاد أتت الامبراطورية البابلية بجيوشها فحرقت و دمّرت و لم تترك حجراً على حجر من الهيكل و لا من أورشليم و سَبَت نصف شعب الله عبيداً إلى بابل. فما حدث لشعب الله حينها يشبه ما يحدث لنا اليوم في أوطاننا و مشرقنا، من تدميرٍ للكنائس و تهجيرٍ للمسيحيّين كما في حلب و إدلب و الرّقة و ديرالزّور و حمص و دمشق و كسب و معلولا و القريتين و مناطق أُخرى، و أيضاً ما حدث و يحدث في العراق مع هجر أكثر الآشوريّين للبلاد و اضطهاد الإيزيديّين في الموصل و شمال العراق.
كل ما كُتب في العهد القديم كتب بعد ذلك التاريخ 587 ق.م و بوجهة نظره… أي كتب بعد الأزمة، بعد خراب و دمار كل شيء. و بحسب متّى، يسوع المسيح ابن داود، ابن ابراهيم، و ابن الله! هو في ذات الوقت: ابن السّبي، ابن الأزمة،  ابن الألم، ابن اللجوء. لأجل ذلك في قصة الميلاد في متّى و الاصحاح الثاني، نقرأ عن قتل هيرودس للأطفال دون السنتين و عن لجوء يسوع مع يوسف و مريم إلى مصر المترافق مع نشيد ارميا الرّاثي: «صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ» (متّى 2: 18؛ إرميا 31: 15).
قُتِلَ من قُتِل، هَرَبَ من هَرَبْ و لَجأَ من لَجأْ و بَقِيَ من بَقِي… تماماً كقصتنا نحن المشرقيّون اليوم. و يسوع ابن السبي وُلد هنا ضمن الأزمة في وسط الضيق و الألم و الموت و القتل… لذلك هو عمانوئيل الله معنا (متّى 1: 23)… لا يتركنا؛ يفهمنا؛ اختبر ألمنا! (عبرانيين 2: 18). يسوع يفهم اللاجئين و يعرف الخائفين و المذعورين و اختبر تجربة المتألمين و المجروحين و الحزانى و أخيراً مات لأجلنا فـ “نزل إلى الهاوية” و شاركنا محدوديّتنا في الموت ليقوم بنا إلى الوجود القياميّ… هذه قصّة الميلاد الحقيقية… يسوع ابن السّبي.
متّى البشيريّ لا يخبرنا أن الـ 14  جيلاً الذين كانوا من السّبي إلى المسيح رجعوا في وقتٍ من الأوقات من السّبي، فنحن نعرف أن زُربَابِل عادَ إلى اليهوديّة مع البقية ليبنوا من جديد، أمّا متّى، فيدعهم جميعاً في السّبي لأنّه يريد أن يقول لاهوتياً: يسوع هو الذي سيحرّرهم من السبي.
’من ابراهيم إلى داود 14 جيلاً؛ من داود الى السبي 14 جيلاً؛ من السبي الى المسيح 14 جيلاً.‘
لماذا 14؟ ربما لأنه ضعفي الرقم 7 رقم الكمال، أو لأنه قوة حروف اسم داود في اللغة الأصلية العبريّة، ولكن اليوم أيضاً نتعلّم درساً في الرياضيات اللاهوتيّة:
14*3 (أجيال) = 6 *7=42
و بميلاد يسوع فقط تُفتَتَح الأجيال الّتي تلي و ما بعد الـ 14*3 أو الـ 6*7  أي الـ 7ˣ7.
و ال7 أيضا في لاهوت العهد القديم هو رمز للسنة السابعة التي يرتاح فيها الشعب من أعماله و هي دلالة إلى الراحة الآخرة و السلام المُطلق (لاويين 25)، فيعلن هنا متّى أنّ يسوع هو المحقّق للـ 7ˣ7، أي للـ 49 (السّنة اليوبيلية). ليست الـ 50 (عالميّاً) بل الـ 49 (لاهوتياً) هي اليوبيل الصّحيح، سنة الراحة و السّلام. بميلاده، جاء يسوع و كشف لنا في التّاريخ الإنسانيّ و الزمن المحدود يوم الرّاحة الأخرويّة الأبديّة (لوقا 4: 18-19). فلذلك نحن كمسيحيين دائماً لدينا رجاء نعلم أنه بالرّغم من الدينونة الحالية و الشّرّ و الألم و الظّلمة، الكلمة الأخيرة ستكون لله … للخلاص للتحرير للشفاء، للنّور، للخير، و للسّلام.
كمسيحيين نعلم دائماً أنّ لنا رجاءً بيسوع المسيح، لأنّنا ندرك أنّ الحرب النّهائية الأًخروية مع الشّرّ قد حُسِمَت في التاريخ بمجيء يسوع المسيح، فغلبَ الخيرُ الشّرَّ و سَيَغلِبُ الخَيرُ الشّرَّنهائيّاً بتدخل الله النّهائيّ وحده فيسود السّلام الحقيقيّ. كما يقول أحد اللاهوتيين أنّ الإيمان المسيحيّ هو تماماً كالّذي ينظر إلى الفجر، فنحن ندرك من النّور أنّ الشّمس ستبزغ رغم أنّنا لم نراها بعد. فالملكوت دشّن في يسوع و ها نحن ننتظر برجاء حلول ملئه.
يحكى عن قصّة تاريخيّة لجنودٍ بريطانيين كانوا أسرى في ألمانيا لدى النّازيين. و في يومٍ من الأيّام سمعوا عن طريق موجاتٍ للرّاديو أنّ الحرب انتهت بخسارة النّازيين و انتحار هتلر. و لكنّهم مازلوا لحينها في السّجن و تحت حراسة الجنود الألمان الّذين لم يصلهم الخبر بعد. فعلموا أنّهم كانوا منتصرين و غالبين رغم السّجن و التّعذيب! كذلك المسيحيّ يدرك أنّه غالبٌ بالرّجاء القياميّ في يسوع المسيح بالرّغم من كلّ الآلام و الاضّطهادات في الزّمان الحاضر!!!
يقول أوغسطينوس:
“ليفرح الأبرار، لأن مبرّرَهم وُلِد
ليفرح المرضى العاجزون، لأن مخلّصهم قد وُلد
ليفرح الأسرى، لأن فاديهم قد وُلِد
ليفرح العبيد، لأن سيّدهم قد وُلِد
ليفرح الأحرار، لأن محرّرهم قد وُلِد
ليفرح كل المسيحيون، لأن يسوع المسيح – ابن ابراهيم ابن داود ابن السبي – قد وُلِد”
ميلاد مجيد مبشر بالسلام لجميعنا!
آمين!!!

اترك تعليقاً