“الظهور” بين التقليدَيْن الشرقي والغربي (القس جورج جبرا القبطي)

يختم عيد الظهور الإلهي للأمم في الروزنامة الكنسيّة عيد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلاديّة، حيث يقع العيد في السادس من شهر كانون الثاني من كلّ عام. وللعيد تسميةً أخرى هي عيد الغطاس أو المعموديّة. إنّ هذه التسميات لها دلالاتها، حيث أنّ هناك مناسبتَيْن يُحتفل بهما بحسب تقليدَيْن مسيحيَّيْن.

التقليد الغربي:
يحتفل بالظهور الإلهي للأمم، وهو استذكار لزيارة المجوس إلى مزود الرب يسوع المولود في بلدة بيت لحم.
المجوس كانوا أوّل الأمم الذين زاروا الرب يسوع في بيت لحم وقبلوه ليكون “كاهناً ونبيّاً وملكاً” بإرشادٍ إلهيٍّ مِن خلال النجم الذي قادهم من بلاد فارس (على ما يُظن) إلى بيت لحم، في رحلةٍ استغرقت أقلّه ستّة أشهر إلى سنةٍ كاملة، بسبب بُعد المسافة وانعدام وسائل النقل السريعة والمُتطوّرة، كما وعدم وجود طرقات سهلة للسفر كما في أيامنا. ربّما هذا يُفسّر لنا طلب هيرودوس ذبح أطفال بيت لحم من ابن سنتين وما دون، وليس أطفال من ابن يوم أو أسبوع مثلاً، وذلك لأنّ المجوس زاروا فعليّاً العائلة المُقدّسة في البيت (متى 2: 11) وليس في المغارة كما هو مُتعارف عليه.
طلب هيرودوس مقابلة المجوس “حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرًّا، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ” (متى 2: 7)، قبل أن يرسلهم لرؤية يسوع. لقد كان اعتماد الظواهر الفلكية لمعرفة الأحداث الهامّة في التاريخ أمراً شائعاً قبل المسيحيّة وبعدها.
للدارسين تاريخ الكنيسة المُبكّر، خصوصاً كتب التاريخ المسيحي قبل تاريخ سعيد ابن البطريق، وابن الراهب، وثيوفيلوس اليوناني، وبعض الكتابات السريانية، نجد أن الكُتّاب ومعظمهم من البطاركة والأساقفة والرهبان، يربطون أحداث سياسيّة وعسكريّة، كما ولادة عظماء التاريخ قبل الميلاد وبعده، بظواهر طبيعية أو فلكيّة كالخسوف والكسوف والمذنّبات والثلوج والزلازل وغيرها. ففي المجتمع الأردني – الفلسطيني مثلاً، لا زال بعض كبار السّن يؤرّخون سنة ولادتهم بإحدى هذه الظواهر الطبيعيّة، مثل “الثلجة الكبيرة” أو “سنة الهزّة”، وذلك في ظلّ غياب سجلّات رسميّة للمواليد.
إنّ تقديم هدايا ثمينة ذات دلالات لاهوتيّة للطفل المولود، هو إشارة واضحة أنّ هؤلاء المجوس عرفوا ما سيكون عليه هذا الطفل من شأنٍ عظيمٍ في المستقبل. وتَذْكُر القِصّة في الإنجيل أنّ العائلة قبِلت الهدايا التي تُشير إلى هويّة يسوع الكاهن من خلال تقديم اللبان (البخور)، يسوع النبي من خلال تقديم المُر، ويسوع الملك من خلال تقديم الذهب.
قبول العائلة للهدايا من المجوس الأمم الذين اعتبرهم الفكر اليهودي أنجاس، هو بداية لرسالةٍ مسيحيّةٍ شاملة لجميع أشكال البشر وأجناسهم. بينما فشل أهل بيت لحم والقدس (أورشليم) من تمييز وجود الطفل المولود بينهم، جاء الأمم من بعيدٍ ليزوروه. هذا إعلانٌ على أنّ محبّة يسوع المسيح هي محبّة تشمل الجميع بدون استثناءٍ أو تمييز.
من المُفرح معرفة أنّ من يختصّ بقصّة المجوس هو متّى ذلك العشّار التائب، واليهودي الذي كتب انجيله لليهود المُتنصّرين وهو يُبشّرهم من بداية انجيله أن يسوع جاء لكلّ البشر، على اختلاف أصولهم وألوانهم وأعراقهم وخلفياتهم. هذا القبول الذي ربما نبع من خبرة متّى، الذي كان منبوذاً في مجتمعه ولاقى في يسوع دعوةً وقبول.

التقليد الشرقي:
التقليد الشرقي يحتفل بهذا اليوم (6 ك2) بعيد الغطاس، أو المعموديّة. والمعموديّة في الفكر الشرقي هي أهمّ من عيد الميلاد نفسه، لأنّها تؤسّس لبداية خدمة المسيح الخلاصيّة والعلنيّة، ورسالته الشاملة لكلّ البشر أيضاً. لذا نجد أنّ معظم المظاهر الإحتفاليّة بعيد الميلاد، من شجرة وسانتا وزينة تأتي من التقليد الغربي، وهو الأمر الذي لم يكن مُتعارفٌ عليه كثيراً في المجتمعات الشرقيّة، قبل مجيء الكنائس ذات التقليد الغربي إلى الشرق. لذا يُمكن الملاحظة أنّ الكنائس الأورثودكسيّة نادراً ما تضع شجرة عيد الميلاد داخل الكنيسة، وعادة ما يزور الكاهن بيوت الرعيّة للتكريس والمباركة في عيد الغطاس وليس في الميلاد. ولا زالت بعض الكنائس الشرقيّة تحتفل بعيد الميلاد في 6 كانون الثاني، مثل الكنائس الأرمنيّة والقبطيّة الأورثودكسيّة في مناطق متعدّدة من هذا الشرق.
الظهور أو الغطاس في الفكر الشرقي يختص بالإعلان الإلهي عن نفسه في الثالوث الأقدس، وقت المعموديّة: الآب مُتكلّماً، الإبن مُعمّداً، والروح القدس على شكل حمامة نازلة من السماء على شخص الكلمة المُتجسّدة الرب يسوع المسيح.
لذا الإحتفال بالظهور والميلاد كانا متلازمَيْن في الشرق حتى أواخر القرن الرابع الميلادي، في مصر وأنطاكيا والقسطنطينية. تمّ لاحقاً الفصل بين الظهور الذي أصبح عيد الغطاس، وعُيّن يوم 25 كانون الأوّل ليكون عيداً لميلاد الرب.
بعد اعتماد المسيح في نهر الأردن بمباركةٍ إلهيّةٍ ثالوثيّةٍ بامتياز، بدأ يسوع خدمته بين الناس، جميع الناس. فقد جال يسوع يصنع خيراً، يُعلّم ويشفي ويرعى كل انسان إلتجأ إليه أو احتاج لمعونته. لقد شفى من لعنتهم الشريعة وحسبتهم أنجاساً كالإمرأة نازفة الدم، فتح عيون الأعمى الذي ظنّوه خاطئاً (أو أبويه)، بشّر السامريّة التي كانت تُعتبر من أعداء قومه، شفى الأبرص المنبوذ من شعبه، شفى ابن الكنعانيّة الأمميّة، وأشبع الجِياع ورعى النفوس الضّالة… في خدمته، لم يُميّز يسوع بين اليهودي والأممي، بين المريض والصحيح، بين الضعيف والقوي، بين البسيط وذو المركز، وبين الفقير والغني.
من خلال احتفالنا بعيد الظهور الإلهي للأمم بحسب التقليدَيْن الشرقي والغربي، المجوس وعيد الغطاس (المعموديّة)، نحن نتذكّر ككنيسة أنّ رسالة الرب يسوع المسيح هي رسالة محبّة وقبول وانفتاح على الآخرين. إنّ رسالة يسوع لا تقف عندنا، بل تتعدّانا إلى كل إنسان. إظهار المحبّة ومشاركتها مع الآخرين بفرحٍ هي رسالة عيد الميلاد المجيد وعيد الظهور والغطاس. علينا أن نكون كذلك النجم الذي أرشد المجوس، حتى يسترشد بنا الناس الى يسوع، ولتكن خدمتنا مُستلهمة لعمل يسوع وخدمته، لأنّه ابن الآب الذي علينا أن نسمع أقواله لنجد مسرّة الآب فيه. آمين…

اترك تعليقاً