الروحانية الإنجيلية المُصلَحة (القس مفيد قره جيلي)

عندما يطلب منك أن تتحدَّث عن الرّوحانيَّة، فأنت تتحدَّث وتناقش أمراً لابد أن يقاس بمعاييرَ معيّنةٍ، ولا يمكن أن يُحدّ ضمن إطارٍ واحدٍ. لأنّه، وعبر التاريخ لم يكن هناك إتِّفاقٌ واضحٌ حول هذه الأسئلة: ما هي الروحانية؟ ما هي أبعاد الروحانية؟ ممَّ تتشكّل الروحانية؟ هل الروحانية مرتبطةٌ بالدّين والمتديّنين فقط، أمْ هي أمْرٌ عابرٌ للدِّين؟ أمَّا الإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها، فهي كثيرةٌ جداً ومتعدِّدةٌ، ممَّا يُصعِّب مهمَّتنا ونحن نتناول بالبحث والمناقشة، الروحانية الإنجيلية المُصْلَحة. ورغم ذلك، أعتقد أن هذا الموضوع شيّقٌ، لما فيه من اتّساع الأفق، ومُلامسته الواضحة لحياتنا. وأكتفي هنا بتعريف الروحانية والخصائص الأساسية لروحانية الكنائس المُصلَحة، بالإضافة إلى أثر هذه الروحانية على الفرد، وأخيراً ما الذي تحتاجه هذه الروحانية.
تعريف الروحانية
هناك عددٌ هائلٌ من التعاريف للروحانية، نحن نحاول هنا أن نعرض بعضها، بما يسهّل مهمَّتنا لنفهم روحانيّتنا المصلحة. إنَّ مصطلح الروحانية في اللغة العبرية، لغة العهد القديم للكتاب المقدس، هي من الكلمة “روح”، التي تعني الرّيح أو الرّوح. وفي اللغة اليونانية، لغة العهد الجديد، نجد أن هذه الكلمة جاءت ترجمة لكلمة “بنوما” التي تُرجِمت أولاً إلى الكلمة اللاتينية Spiritus التي تعني “روح أو نَفس”. في كلتا الحالتَيْن، فإنَّ القاسم المشترك بين كلّ ترجمات مُصطلحيّ العبرية واليونانية، هو الإشارة إلى شيء نُدركه لكن ليس بشكلٍ كاملٍ. فالريح لا نراها لكن نلمسها، والنَّفَس أيضاً لا نراه لكن نشعر به. لذلك يبدو للباحثين أولاً أن الروحانية لا بد أن ترتبط بأمرٍ غير منظورٍ، شيءٍ أو كائنٍ ماورائي، من هنا جاءت التّعاريف التّالية:
* الفِكْر المرتبط بما وراء هذا العالم الذي نراه.
* الجانب الدّيني الذي يُشكِّل فِكر الإنسان وسلوكه، استناداً إلى فهم مُؤسِّس الدّيانة (النبي- الرسول) الله/ أو الآلهة/ أو الذّات العُليا.
* المعاني التي يعيشها الإنسان الذي يعتقد أن حياته وآثارها ستمتد إلى ما فوق المنظور، أو ما بعد الموت.
في البداية، كانت هذه التّعاريف محصورةً ضمن الدّيانة الواحدة، لكن بعد أن بدأت الأديان تحتكّ بعضها ببعض، وتُترجِم أعمال بعضها بعضاً، صارت الروحانية تَعْبُر حدود الطائفة الواحدة، ومن ثمّ الدّين الواحد. وحدث هذا بعد نمو الفكر المتحرّر عند المتديّنين خاصة البروتستانتية المتحرِّرة.
بقي المفهوم عن الروحانية مُتعلّق بالدّين أو الفكر المتديِّن المحصور ضِمْن نطاق الدّين الواحد، أو الذي يَعْبُر الدّين. لكن مع ازدياد عدد الملحدين أو غير المتديّنين في العالم، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، لم تعُد الروحانية مُقتصرةٌ على الإنسان المتدين وحسب، بل صارت الروحانية شاملةً كل فردٍ أو جماعةٍ لهم إيمانٌ بالقيم المعنوية التي ليس لها مردودٌ ماديٌ مباشر، بغضّ النَّظر إذا كان هناك انتماءٌ لمؤسَّسةٍ دينيةٍ أو فكرٍ دينيٍّ معيَّنٍ أو كان ملحداً.
رُغم إيماني المطلق بأنَّ الروحانيّة تعبُر حدود الدِّين الواحد، وقد تكون مُرتبطةً بالفرد وخبرته وتجربته الذاتية، أكثر من المؤسَّسة الدينية نفسها، إلاَّ أنَّني لا أستطيع أنْ أتجاهل حقيقة أنَّ الروحانية لا يمكن أن تنفصل عن الدِّين بشكل كامل. الروحانية مُرتبطةٌ، بالإضافة إلى القيم المعنويَّة التي يؤمن بها فردٌ أو جماعةٌ، بما هو غير منظورٌ أيضاً. لذلك اسمحوا لي أن أقتبس التّعريف الذي سمعته يوماً من أستاذي في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة القس إميل زكي، الذي قال: “الروحانية هي فكرٌ وقيمٌ (أسلوب حياة) وعبادةٌ.” إذْ لا يمكن أن تكون هناك روحانيةٌ بشكلٍ عبثيٍّ ودون فكرٍ معيّنٍ، ولا يمكن أن تقوم روحانيةٌ (فِكْر) دون أن تؤثِّر في القيم التي يعيشها الإنسان. ولا يمكن أن نستخدم الروحانية كمُصطلحٍ دون وجود معبود يكمن وراء الفكر ووراء القيم المُعاشة، ويُعتبر ضابطاً للفِكْر والقيم ومعياراً لهما.
الروحانية الإنجيلية المُصلَحة:
لننظر الآن إلى الروحانية المصلحة. إذا ما دقّقنا في الروحانية المصلحة فإننا سنجد أنها تتميّز بما يلي:
روحانيةٌ معتمدةُ على الله: كلّ الروحانيات ترتكز على الذّات العليا كما ذكرنا سابقاً، لكنَّ الروحانية المصلحة تحديداً، تعزو كل شيءٍ إيمانيٍّ لله. فحيث إنَّ هناك من يعتقدون أن جهودنا هي ما تقرّبنا لله. مثل: التَّكريس الذّاتي، تسبيحاتنا وعبادتنا والتقنيات المستخدمة فيها وفي تأملاتنا، كلّما بذل الإنسان مجهوداً أكبر في التقرُّب لله، يُصبح أكثر قرباً منه. وبينما يعتقد هؤلاء بكل ذلك، تأتي الروحانية المصلَحة بالقول إن الله أنْعَم علينا بأنَّه هو من اقترب منَّا وجعلنا أبناءً وورثةً، فحتى ما نبذله من مجهودٍ للتقرب إلى الله، هو من نِعَم الله علينا.
روحانيَّة الثّالوث
على اعتبار أنّ قانون الإيمان النيقاوي، وقانون إيمان الرسل، يُبيِّنان أنَّ الآب هو الخالق، والابن هو الفادي، والروح القدس هو الرَّبُّ المُحيي المُرشِد. إلاَّ أنّ روحانية الإصلاح الأساسية تقوم على أنَّ الآب هو أيضاً من أطلق عملية الفداء، وأن الخليقة كانت في الابن، وأن روح الله كان حاضراً في الخلق أيضاً، ولم يزل حاضراً في الخليقة. وبالتالي، هناك تشديدٌ على أنّ الثالوث حاضرٌ في كلّ شيءٍ.
روحانيَّة التَّفاعل الشَّخصي
رُغم أنّ الكنيسة المصلَحة تشدِّد على الجماعة، إلاَّ أن روحانيتها تتفاعل مع الخبرة الذاتية للفرد. تشدِّد الروحانية المصلحة على العلاقة والحبّ القائمين بين الفرد وبين الله، وعلى المشاعر الشخصيّة وضرورة أن يكون إيمان الجماعة مُتناغماً ومُتفاعلاً مع إحساس الفرد بالفرح والسلام الداخليَين. فنحن لا نَقِلّ عن تيَّار الإصْلاح الرَّاديكاليّ بإعطاء أهميَّةٍ كبيرةٍ للعلاقة الشَّخصيَّة بين الله والإنسان.
كنيسةٌ أرضيَّةٌ (مَنظورة): بمعنى أنّها تنتمي إلى العالم. هذا لا يعني أنَّنا نُعطي الأولويَّة للعالم، بحيث يُصبح الله ثانوياً، ولا يعني أنَّنا نُهادن الخطيئة. لكن يعني أن الروحانية المصلَحة تحثُّنا على العيش كجزءٍ من الخليقة، نتفاعل معها، وبأنَّنا مَدعوون لقيادتها. علينا أن نسعى لتحقيق ملكوت الله على الأرض. فالخلاص والروحانية لا ينتشِلانِنا من العالم، بل يجعلانِنا نعمل لتوطيد الخلاص للخليقة كلّها. الله خلقنا في الجسد، ونحن نختبر الله ونحن لم نزل في الجسد، ونتواصل معه من خلال حياتنا الأرضية الطبيعية واليومية، وليس من خلال خوارق ومواهب خاصّة.
الروحانية المصلَحة تحثّ أبناءها على الاستمتاع بالحياة، والعيش بشكلٍ طبيعيٍّ، باحثين عن الحياة الأفضل على الأرض، لأنَّنا مُقتنعين بأنّ الحياة الأبدية تبدأ على الأرض. إنَّ تفاصيل الحياة اليوميَّة بكل بساطتها يمكن أن تكون قناةً نختبر فيها الله، في حال عملناها لمجد الله وللحفاظ على خليقته. لذلك تُعتبر الروحانيَّة المصلَحة بأنّها روحانيَّةٌ مُستوعِبَةٌ للحياة الإنسانيَّة، هي تعترف بأنَّنا خليقةٌ ساقطةٌ تمَّ فداؤها. لذلك نحن لم نزل نُعاني من عواقب الخطيئة، لكن في الوقت نفسه ندرك أنَّ في الحياة ما هو جميلٌ.
روحانيَّة الانفتاح
بناءً على ما تقدَّم نصل إلى حتميَّةٍ، بأنَّ الرّوحانيَّة المصلَحة هي روحانيَّةٌ مُنْفتحةٌ. نحن نؤمن بأنَّنا ننتمي إلى الكنيسة المقدَّسة الجامعة، وهذا يعني أنَّه علينا أن نكون مُنفتحين على تقاليد الكنائس الأخرى، التي من شأنها أن تكمّل ما ينقُصنا. وفي الوقت نفسه هناك الكثير من الأشياء في العالم العلماني، من شأنه أن يغني حياتنا الروحيَّة وفكرنا. قابلت يوماً قِسَّاً معمدانياً في مؤتمر يتمحور حول خدمة المسيح بواسطة الرّياضة، وسَمعته يكرِّر كثيراً عبارة مفادها: “أنا بعد أن قبلت المسيح كمخلِّصٍ شخصيٍّ لحياتي ابتعدت عن الرّياضة بعد أن كنت رياضياً، لأنَّني اعتقدت بأنَّها لا تُمجِّد الله. لكني الآن تغيَّرت فقلت في نفسي لماذا لا أستخدمها لمجد المسيح ما دمت أستطيع؟”. ومع أن النتيجة التي وصل إليها ذلك القسّ جيدةً، إلاَّ أنّني أبيِّن هنا أن الذي ينتمي إلى التيّار المصلَح ذي الروحانيَّة المنفتحة، لا يعيش مثل ذلك الصِّراع، لأنَّه في الأساس أرضي ومُنفتح، ولا يعتبر أن ممارسةً ما ليست من الله، فقط لأنَّها غير مُدعمةً بوصيّةٍ من الكتاب المقدس.
روحانيَّة تقليديَّة
رغم ذلك الانفتاح، إلاَّ أنَّ الرّوحانيَّة المصلَحة مُتَّصلة اتِّصالاً كاملاً بقانونيّ الإيمان الرّسولي والنيقاوي، وأيضاً بفِكْر الآباء، عندما لا يتعارض مع الكتاب المقدَّس، بالإضافة إلى قوانين الإيمان الخاصَّة بالإصلاح. الرّوحانيَّة المصلحة متفاعلة مع كلِّ هذا التَّقليد الغني.
روحانيَّة الكتاب المقدَّس
الكتاب المقدّس هو مَرجع إيماننا وأعمالنا. قال جون كلفن: “علينا أن نتكلّم حيث يتكلّم الكتاب المقدس، وعلينا أن نصمت عندما يصمت الكتاب المقدَّس.” مِن المهم أن نلاحظ أن كلفن طرح سلطان الكتاب المقدس في مقابل سلطان البابا، لكنه لم يحرم الكنيسة والفرد من حقِّ إعمال العقل في قراءة الكتاب المقدّس، لأنَّه لا تفسير للكتب دون عقلٍ.
أساس كل ما سبق هو روحانية الكلمة. إنّ المحرّك الأساس لكلّ أبعاد الروحانيَّة المصلحة التي طرحناها سابقاً، خاصةً عندما نتحدّث عن التَّفاعل الشَّخصي والانفتاح على العالم، تأتي من روحانية الكلمة “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا” (يوحنا 1: 1، 14). إنّ التأكيد والتَّشديد على أنَّ كلمة الله هو يسوع المسيح، هو فِكْر الله LOGOS الذي ظهر في الجسد، والذي اختبرناه ورأينا مجده في الجسد، والذي عاش معنا تجاربنا وضعفنا ومحدوديّتنا، ما عدا الخطية. إنَّ هذا التَّشديد جعل الروحانيَّة المصلَحة روحانيَّة التقاء فكر الله بفكر الإنسان، لذلك، وإنْ اعتَبرت الكنيسة المصلحة أنَّ الكتاب المقدَّس مرجعها، إلاَّ أنَّ مركزية روحانيّتها، كما هي مركزيّة الكتاب المقدس نفسه، هو المسيح وحياته على الأرض. لذلك لا تجد هنا أي مبرِّر لتجميد العقل وإعادة قراءة الكتاب المقدّس بطرقٍ جديدةٍ ورؤيةٍ جديدة. لأنَّ الروحانيَّة المصلحة تتمحور حول كلمة الله الذي صار جسداً، غدت الروحانيَّة عقلانيَّةً اجتماعيَّة. وهذا يضمن أن لها ثوابتَ لا يمكن المساس بها، لكن في الوقت نفسه لا يمكن أن تكون الروحانيَّة المصلَحة روحانيَّةً جامدةً، على عكس بقيَّة الرُّوحانيَّات.
أثر الروحانيَّة المصلَحة في الفَرد
إذا حدث أنْ قابلت شخصاً مشيخيّاً أصيلاً في مؤتمرٍ مسكونيٍّ في مكان ما. وأنْتَ نفسك كنت منتمياً عن حقِّ للكنيسة المشيخية (أو تيار الإصلاح الأساس ككلّ)، هل تعتقد بأنَّك ستجد ملامحَ واضحةً للرّوحانيَّة التي تميِّز الشَّخص الذي قابَلْته؟ وما هي الصّفات الشَّخصيَّة الأساسيَّة التي تُميِّزه يا تُرى؟
  1. 1. إعْلاء قيمة العقل
من بين كلّ متديِّني العالم، يُفاجئ الشَّخص الذي ينتمي إلى تيار الإصلاح الأساس الآخرين بعقليَّته النَّاقدة، وانفتاحه وسقف فكره العالي جداً. إنَّ أيَّ نوع من أنواع الخوف من التَّفكير، لا ينتمي إلى تُراثنا المصلَح. لا يقوم الإنسان المصلح في الكنيسة، ولا يمارس طقساً لا يفهمه. مع أنَّه لا يُكفِّر الشَّخص المختلف معه أو الأدنى منه في الفكر، إلاَّ أنَّه لا يقبل أن يعيش وفي عقله، تحديداً في فكره الرّوحي، أيَّة زاويةٍ مُعْتِمةٍ. كلُّ شيءٍ ينبغي أن يكون مفهوماً وخاضعاً لتقييم العقل.
  1. 2. لدَيْه اهتمامٌ كبير بالخليقة والإنسان وحاجات الإنسان وكلّ قضايا عصره
لا يستطيع الإنسان المصلَح أن يتجاهل مَثلاً ارتفاع درجات الحرارة في الأرض والتّلوث واسْتهلاك الطبيعة والموارد البيئيَّة، دون أن يشعر بالمسؤوليَّة. كما أنه لا يستطيع أن يتجاهل قضايا عصره من جهلٍ وفقرٍ وعُنفٍ وغيرها، ممَّا يُسيء إلى حياة الإنسان، ويعتبرها مسؤوليةً شخصيَّةً له.
  1. 3. التَّشديد الكبير على الفرد
لا ينحرف الإنسان المصلَح إلى الإفراط والمغالاة في الفرديَّة، بل يعرف دائماً أنَّ الله يقود شعباً، ويدخل في علاقةٍ مع شعبِ، هو كنيسة العهد الجديد. لذلك يعطي المشيخيُّ الكنيسة والعقيدة والنّظام الإداري المجمعي قيمةً كبيرةً. فهو لا يهاجم نُظُم الإدارة في الكنائس الأخرى. وحتّى في حالة الاختلاف عنها فهو لا يمتعض منها، لكن تراه يمتعض من الفوضى وعدم التَّرتيب وعدم وضوح نظام الإدارة.
  1. 4. عدم وجود حواجز بَيْن الفرد وراعِيه أو قيادات الكنيسة، لأنَّه لا يذهب إلى الله بخَوْف بل بروح البنوَّة.
ما الذي نحتاجه من روحانيّتنا المُصلَحة اليوم؟
إنَّ الرّوحانيَّة المصلحة لا يمكن أن تنسب لنفسها الكمال. الرّوحانيَّة المصلحة هي التي تقرُّ وتعترف بأنَّها جزءٌ من عائلةٍ مسيحيَّةٍ أكبر، تتفاعَل معها وتُضيف عليها وتأخُذ منها. وعليه، فإنَّ أهمَّ ما تحتاجه الرّوحانيَّة المصلَحة من وجهة نظري هو عدم فقدان الشَّغف، بمتابعة الإصلاح والاستمراريَّة فيه وبه.

One thought on “الروحانية الإنجيلية المُصلَحة (القس مفيد قره جيلي)”

اترك تعليقاً